انتخابات لبنان .. الانتفاضة المدنية أثمرت
جذبت الانتخابات النيابية التي انتظمت أخيراً في لبنان الأنظار إليها، هذه المرّة لعوامل متعدّدة، منها أن هذا الاستحقاق جرى وسط أزمة اقتصادية وسياسية متراكبة، ينوء تحت وطأتها اللبنانيون، وبما أن النظام اللبناني، على علّاته الطائفية، يسمح بتسلسل السلطة وتداولها، انطلاقاً من التمثيل النيابي، بحيث يكون لمجلس النواب دورٌ مقرّر في اختيار رئيس الحكومة وفريقه، وفي صياغة بيانها الوزاري، وهو بمنزلة مرجعية فضفاضة يفُترض أن يحتكم إليها مجلس الوزراء، وكذلك المعارضة، في بلورة السياسات واتخاذ القرارات والإجراءات، علاوة على أن مجلس النواب يختار بالانتخاب مرشّحاً لرئاسة الجمهورية من داخل المجلس أو خارجه. لهذا كله، أثارت هذه المناسبة الفضول الشديد، وأطلقت التساؤلات بشأن ما إذا كانت اختيارات اللبنانيين سوف تُسهم أم لا في توجيه دفّة الأمور نحو الخروج من المآزق السياسية والاقتصادية.
ومن العوامل الأخرى أنه جرى الوفاء بالاستحقاق الانتخابي بعد انتفاضةٍ مدنيةٍ واسعةٍ عابرة للطوائف والمناطق، بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، على وقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والانهيار المتسارع للعملة الوطنية، وواقع الإفقار الذي تعرّضت له أكثرية اللبنانيين. وقد لاقت هذه الانتفاضة أصداء واسعة في المجتمع اللبناني المركّب، ونالها قدرٌ من التشهير، وحتى التنكيل أمام الكاميرات بناشطيها من قوى نافذة معلومة، وذلك باعتبارها ثورةً لم تأتِ على مقاس أحد من النافذين، ولم تندرج ضمن توقعات أحد منهم، وأضفت مضامين جديدة على مفاهيم التحرّر والحرية والمقاومة والصمود الشعبي، فيما حملت هذه الانتفاضة، من جانب آخر، تشكيكاً بزعماء الطوائف وبتمثيلهم جمهورهم ومناطقهم، فضلاً عن تمثيلهم الوطني الذي يتعدّى طوائفهم. وقد هدأت هذه الانتفاضة تحت ضغط جائحة كورونا ومخاطرها، وتحت وطأة الظروف الاقتصادية القاسية التي تسرّبت معها أجيال شابة إلى الخارج، التماساً لفرص حياة جديدة تُعين المهاجر في الخارج وامتداده العائلي في الداخل.
حملت نتائج الانتخابات بعض الجديد، متمثلاً بوصول وجوه شابّة من ممثلين للانتفاضة إلى "الندوة البرلمانية"
يُضاف إلى ما تقدّم أن لبنان عرف في العام الماضي أزمة غير مسبوقة في علاقاته الخليجية، أدّت إلى انسحاب سفراء من هذا البلد، وذلك في أعقاب حملات إعلامية وسياسية شنّها حزب الله على قيادات تلك البلدان، وبالذات السعودية، وهو ما حدّ من فرص استقدام عمالة لبنانية إلى دول الخليج العربية، وأوقف التدفق السياحي الخليجي إلى لبنان. وقد أمكن الحدّ من هذه الأزمة، غير أن غيوماً من عدم الثقة ظلّت تكتنف فضاء العلاقات اللبنانية الخليجية، وهو ما ينعكس على حياة اللبنانيين وحراكهم الاقتصادي.
ويبقى العامل الأهم فقدان الأكثرية اللبنانية ثقتها بالسلطة القائمة، وقد تكرّس هذا الأمر بوضع العراقيل أمام التحقيق في كارثة انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، والتي أودت بمئتي ضحية وبعشرات الجرحى، ما أدّى إلى إيقاف هذا التحقيق، وحتى تهديد المحققين والتنكّر لأرواح الضحايا ولمعاناة ذويهم وأحبائهم. وهو ما يفسّر الإقبال المنخفض على الاقتراع، إذ زادت نسبة التصويت بقليل عن 41%.
في هذه الظروف، جرت الانتخابات، وقد حملت نتائجها بعض الجديد، متمثلاً بوصول وجوه شابّة من ممثلين للانتفاضة إلى "الندوة البرلمانية"، وهو ما كان يبدو قبل نحو سنة ضرباً من التطلعات الحالمة، وفيما كانت أصوات ترتفع أن الذهاب إلى الخيار البرلماني يخدم السلطة، ولا يفيد الحراك الشبابي. وفي النتيجة، فازت مجموعة من الوجوه الجديدة، وبإمكانات متواضعة، في تنظيم الحملات الانتخابية، وقد حاز هؤلاء 13 مقعداً، تضاهي ما خرج به حزب الله من مقاعد، بحسب ما استنتجت مواقع إخبارية لبنانية. وخلال ذلك انكسرت سيطرة تيار "8 آذار" على المجلس النيابي والذي فقد الأكثرية، وهذا هو الجديد الأهم الذي حمله هذا الحدث، والذي يشبه، في بعض ملامحه، ما انتهت إليه الانتخابات النيابية في العراق، علماً أن القوى الأخرى الممثلة للتيار "السيادي" وللمجتمع المدني وقوى التغيير لم تحُز الأكثرية، إذ ملأ فائزون مستقلون المساحة المتبقية. وقد شعرت قوى التغيير، مع عمقها الاجتماعي، أن تضحيات انتفاضة تشرين، المديدة والمتقطعة، لم تذهب سدى، وهذا هو العزاء الذي تحمله تركيبة المجلس النيابي.
الخشية من ارتفاع عشوائي أو متعمّد لمستوى التوتير السياسي والأمني خلال الأشهر الخمسة المتبقية على انتخاب رئيس الجمهورية
والتوقعات الآن تذهب إلى أن المجلس النيابي الجديد سوف يشهد مواجهات سياسية ساخنة بين قوى متعارضة، وبوجود وجوه شابة لا تملك حقاً خبرةً في العمل النيابي، لكنها لا تندفع إلى التسويات التي تبدّد الحقوق، ولا ترتضي استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وهو ما يجعل الطريق أمام تشكيل حكومة جديدة محفوفاً بالمصاعب، إذ إن قوى "8 آذار" الممثّلة في البرلمان ترفض، منذ الآن، تشكيل حكومة مستقلين وتكنوقراط، وهو مطلب أساسي كانت قد عبّرت عنه انتفاضة تشرين، وترتأي، بدلاً من ذلك، تشكيل حكومة سياسية تطلق عليها مسمّى حكومة وحدة وطنية، تمثل الأحزاب والقوى الطائفية الرئيسية، وتملك، على الأقل، ما يسمّى الثلث المعطّل لصدور القرارات الحكومية. فيما تلوح بعدئذ ملامح صراع على انتخاب رئيس جديد للجمهورية في نهاية أكتوبر المقبل، حيث سوف تتبدّى مفاعيل التركيبة الجديدة للمجلس النيابي بوضوح أكبر. وليس سرّاً أن قوى "8 آذار" تطرح مرشحيْن، أولهما الوزير السابق جبران باسيل الذي يتزعّم التيار الوطني الحر، والذي أسسه الرئيس الحالي العماد ميشال عون، وثانيهما الوزير السابق سليمان فرنجية (فاز ابنه فقط عن تيار المردة الذي يمثله، وكان التيار ممثلاً في السابق بأربعة نواب، وقد وصف فوزه قائلاً بنبرة دُعابة: "زمطنا بريشنا"، والمقصود نجونا بشقّ الأنفس). وسوف يكون من العسير تمرير أحدهما إلا إذا تبدلّت ولاءات واختلّت موازين، علماً أنه لا يلوح بعد اسم مرشّح منافس لدى القوى الأخرى. وكانت الانتخابات الرئاسية السابقة سنة 2016 قد رست على ميشال عون، بفضل تصويت كتلة سعد الحريري له، بعد ممانعة لم تستمر طويلاً، وقد عبّر الحريري عما يشبه الندم على تنازله هذا، لدى الإعلان في يناير/ كانون الثاني الماضي عن قراره تجميد نشاطه السياسي ونشاط تيّاره. وسوف تتجه أنظار قوى إقليمية ودولية عديدة إلى ذلك الحدث المفصلي، مع الخشية من ارتفاع عشوائي أو متعمّد لمستوى التوتير السياسي والأمني خلال الأشهر الخمسة المتبقية على إجراء هذا الانتخاب.