انتخابات لبنان .. حقاً؟
تنتهي، مساء اليوم السبت، المهلة الممنوحة للمغتربين اللبنانيين للتسجيل من أجل المشاركة في الانتخابات النيابية المقرّرة في 27 مارس/ آذار المقبل. تسابق كثر على دعوة الاغتراب اللبناني إلى المشاركة في الانتخابات التي وصفوها بأنها ستكون الأكثر تأثيراً في تاريخ لبنان الحديث، وأنها ستُشكّل محطة فاصلة بين مرحلة تنوء فيها البلاد تحت أثقال اقتصادية واجتماعية سيئة ومرحلة يُفترض أن تكون "مزدهرة ومثالية". لا شكّ أن عدد المغتربين المسجلين (تجاوز مائتي ألف مقترع) سيؤثر بشكل كبير على نتائج الانتخابات، في حال انتخبوا جميعاً. بالطبع، هناك حديثٌ عن قدرة متنامية للاغتراب على إسقاط نفوذ جميع الأحزاب اللبنانية، على اعتبار أنهم "متحرّرون من أي قمع قد يواجهونه في لبنان"، وأنهم "ليسوا في حاجةٍ إلى الاستعانة بحزب أو نائب أو مرشح انتخابي، للدخول إلى مستشفى أو مدرسة أو تأمين عمل". ربما يكون هذا التحرّر نقطة جوهرية في تحوّل ما، لكنه ليس بالضرورة أن يكون نقطة وحيدة.
الاغتراب اللبناني موجات متراكمة من الهجرة في حقب عدة منبثقة من أحداث لبنانية عنيفة. هناك من هاجر بسبب الحاجة إلى العمل في أواخر القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20، وهناك من هاجر بسبب المجاعة التي ضربت لبنان بين عامي 1915 و1918. هاجر آخرون بسبب الظروف الاقتصادية، ثم حرب لبنان (1975 ـ 1990) وبعدها، ثم التدهور الاقتصادي الهائل بعد عام 2019. لكل من هؤلاء ظروفه، ولكل منهم حماسته أو لامبالاته تجاه الاستحقاق الانتخابي. ولكل منهم أيضاً تناغم سياسي ومصلحي مع الدول المضيفة له. في ظلّ كل هذه الفسيفساء، لا بد من التركيز على مغتربي الحرب اللبنانية الذين يتمسّكون بغضبهم أو حقدهم تجاه من يعتبرون أنه طردهم من بلادهم. وهؤلاء لا ينتمون إلى طائفةٍ محددة، بل إلى مجتمعات تركت بيوتها بسبب هجومٍ لطرفٍ مسلّح عليها. لا يمكنك إقناع هؤلاء بأن الزمن تغيّر. بالنسبة إليهم "العدو لا يزال في مكانه وصوتي سيطيحه".
كل شيء عملياً يجري ضمن المهل الدستورية إلى إجراء الانتخابات في موعدها، لكن هل ستجري؟ لمن يفهم لبنان، عليه عدم الوثوق بتمسّك الأحزاب اللبنانية بإجراء الانتخابات، لأنها ترفض في الأساس إجراءها. وعادة، تعمل تلك الأحزاب وفقاً لمبدأ "لتأتِ العرقلة من غيري"، للوقاية من الانتقادات الشعبية، وكي لا تتحوّل إلى كبش محرقة ترمي عليه باقي الأحزاب المسؤولية.
كل الأقاويل في الكواليس تؤكد أن الانتخابات لن تحصل في لبنان. لا سبب واضحاً لها سوى الضبابية والفوضى. للمرة الأولى، تتعامل الأحزاب اللبنانية مع شيء يُعتبر "خارج السيطرة" في السياق الانتخابي. عادة كانت الأحزاب قادرةً على الاعتماد على قاعدة من المناصرين، ومن المستقلين، الذين يتمّ تقديم الخدمات لهم، ومن موظفي القطاع العام المحسوبين عليها، فتُصيب توقعاتها بدقّة، وتحصل على مقاعد نيابية محدّدة. اليوم، الأحزاب غير قادرة على تموين مناصريها، ولا على تقديم الخدمات بشكل كافٍ للمستقلين، وموظفو القطاع العام بدأوا يقدّمون استقالاتهم بكثافة، نظراً إلى تدنّي قيمة الرواتب بالعملة اللبنانية، بسبب الوضع الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك كله، يزداد الوضع الاقتصادي سوءاً، والقطاع الطبي بات شبه منهار، والوضع التعليمي ليس في أفضل حالاته. حجم الكوارث والمآسي أصبح أكبر من قدرة الأحزاب والدولة على معالجتها، أو حتى استيعابها. لذلك، في الأشهر الأربعة المقبلة، أي قبل الانتخابات المفترضة، ستخرج أصوات عدة تُحذّر من حصول الانتخابات، لأسبابٍ مرتبطةٍ بعجز الدولة عن إدارتها. ستحصل توترات سياسية كثيرة. وفي لحظة صفر سيخرج أحدهم ويقول للبنانيين، المقيمين والمغتربين: انتخابات لبنان.. حقاً؟ حينها يعلم كل من خالجته المشاعر باحتمال حصول التغيير بصناديق الاقتراع أن "الواقعية" التي بدأت منذ استقلال 1943 لا تزال أقوى من آماله.