انتظار الحرب على رِجل ونصف أو على كرسيّ متحرّك
منذ اغتالت إسرائيل فؤاد شكر وإسماعيل هنية في 30 و31 يوليو/ تموز، تنام المنطقة وتستفيق في انتظار الخبر العاجل الذي بات يُرمز إليه بكلمتي الانتقام والردّ. الأولى مثقلة بالبدائية، والثانية سياسية أكثر. مدى الرد الإيراني ــ الحزب اللهي وحجمه أهم من موعده. تأخّره يرجّح من الجهة الإيرانية أن يكون نسخة مطوّرة للرد على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، أي رمي مجموعة الصواريخ والطائرات الحربية المسيّرة الإيرانية ليل 13-14 إبريل/ نيسان الماضي لتسقط في مساحاتٍ خاليةٍ أو لتوقعها دفاعات الدولة العبرية وحلفائها الغربيين والعرب، ولتردّ إسرائيل على الرد الرمزي الباهت بما هو أكثر بهتاناً. على هذه النتيجة دام عقد النزاع ثلاثة أشهر ونصف شهر. والحال أن إيران، ككل الدول، لا تؤمن بالانتحار. هي تدرك أن ردّاً واسعاً يهدّد حتماً نظامها بالزوال، هو الذي يُخبرنا رموزُه أنه من بين الأقوى في العالم، ليتأكّد يومياً أنّ إيران ــ الدولة ليست قوية إلا على شعبها، إلا في الحروب الأهلية عن بُعد، وفي تغذية الحروب بالوكالة وتصديرها، وفي تخريب مجتمعات عربية وفي العبث بديمغرافياتها وبناها الطائفية على شاكلة النماذج السورية ــ اللبنانية ــ اليمنية ــ العراقية المعروفة. أما في موازين العلاقات الحربية ما بين الدول، فإن إيران تعود في حسبة سريعة إلى مصاف البلدان العالمثالثية الهشّة باقتصادها وعسكرها ومخابراتها وتقنياتها وبناها الداخلية.
حساب حسن نصر الله وحزبه في الانتقام لقائده العسكري فؤاد شكر مشابهٌ إلى حد بعيد لمعادلات طهران. هو الآخر ليس انتحارياً، بما أنه الدولة الفعلية في لبنان ولم يعد حزب سلطة، بل أصبح السلطة نفسها. لا يريد حرباً شاملةً تقضي على سلطته ــ دولته أو تضعفها بشكل حادّ، وقد ورّط البلد في حربٍ سمّاها جبهة إسناد دمّرت عشرات القرى في الجنوب اللبناني وأوقعت 500 قتيل، 400 منهم من مقاتليه، ولم يخفّف الحزب، بجبهته الإسنادية تلك، شيئاً عن الفلسطينيين في غزّة، لا بل إنه سرق من غزّة كثيراً من الاهتمام الإعلامي والسياسي. هو يُتعب إسرائيل وجيشها واقتصادها طبعاً ولكن بما لا يقارن مع ما تتسبّب به الحرب على لبنان بناسه واقتصاده المنهار أصلاً وعُمرانه. حساب "الدولة" عند حزب الله، أي دولته وليس الجمهورية اللبنانية، يفترض انتقاماً محدوداً لشكر، ربما على نسق توسيع جغرافي لصواريخه لاستهداف مستوطنات لم تطاولها بعد من دون أن تصيب أهدافاً مدنية. هذا في حسابات "حزب الله الدولة"، وفيه يمكن الإسهاب عن اتفاق عاموس هوكشتاين ونبيه برّي على الترسيم البحري للحدود بين لبنان وإسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وفيه تندرج التسريبات عن مشروع اتفاق ترسيم الحدود البرّية الذي يفيد عارفون بأنه جاهز للتوقيع بالفعل، لكن عندما تنتهي حرب غزّة.
في هذه العبارة الأخيرة، "عندما تنتهي حرب غزّة"، يقع الاعتبار الآخر عند حزب الله، هو حساب حزب الله النقيض للدولة، أي المليشيا. في معظم الحالات، يتكامل وجها حزب الله، الدولة والمليشيا، لكن الفكرتين تتصادمان في أحوال أخرى كالظرف الحربي الماثل أمامنا. "حزب الله الدولة" يفكّر بردٍّ محدود، بينما الجانب المليشياوي "النضالي" من حزب الله متحمّس لاجتياز الحدود ولـ"7 أكتوبر لبناني". الأول يتحدّث عن جبهة إسناد والثاني عن وحدة الساحات. الأول يعد بالردّ، والثاني بالانتقام. ليس معنى ذلك أن صراعاً داخلياً تدور رحاه داخل أروقة حزب الله، ذلك أن وجهي "الدولة" والمليشيا غالباً ما يتعايشان ويتعاركان داخل رأس كل قياديٍّ في الحزب.
مع غياب الدولة في لبنان، الدولة الطبيعية لا دولة حزب الله، يصبح عبثياً ولكن حقيقياً تمنّي انتصار "حزب الله الدولة" على "حزب الله المليشيا" لكي يكون ردّه على اغتيال شكر محدوداً، فإن كانت إسرائيل كلّها تقف "على رِجلٍ ونصف" مثلما أخبرنا حسن نصر الله، فإن اللبنانيين لا يقفون على رِجل ونصف، ولا على رِجل واحدة، بل ينتظرون الحرب وهم مُقعدون على كراسيّ متحرّكة.