انتفاضة الجلاليب المعطّرة
كثير من الوجوه التي تراها في التظاهرات المتفرّقة، الزاحفة بإيقاع موزون من الجنوب نحو وسط وشمال مصر، هي ذاتها الوجوه التي كانت في مرمى ألسنة المتقاعدين من بكوات الثورة في العامين التاليين على الإنقلاب العسكري في مصر 2013.
كان هناك ما يشبه الأسى والسخرية الطبقية من هيئة المتظاهرين وأعدادهم، بل هناك من كان يريد لها أن تتوقف وتختفي، كونها لن تقدّم أو تؤخّر، حتى انتهى بنا الأمر إلى أن هؤلاء الثائرين البسطاء توقفوا عن الخروج والهتاف، ولزموا مساكنهم، فامتدّت لهم القبضة الأمنية تعتقل وتسجن وتعذّب وتقتل أيضًا .. فماتت السياسة في مصر.
لو دققت في أسباب الغضب والتظاهر ودوافعهما قبل ست سنوات، ستجد إطارًا أخلاقيًا وإنسانيًا أكثر وضوحًا مما تراه الآن، مع التشديد على أن موجة الغضب الحالية لا تخلو من السند القيمي والإنساني الذي يجعلها معتبرة ومقدّرة ومنطقية ومستحقة وعادلة.
فقط، يلفت النظر هذا الاحتفاء الشديد، وطلب القرب من هذه الوجوه الجديدة/ القديمة التي تعاود التظاهر تعبيرًا عن الغضب والوجع الآن، ومنها كثيرون ممن أقعدهم الإحباط والإحساس باللاجدوى مع تعرّضهم لموجات من الاستعلاء والتثبيط، كانت مغلفة بسخرية أحيانًا. بل أنه بينما أصحاب الجلاليب المعطّرة بعرق الكدح، والسعي من أجل اللقمة والمسكن يتظاهرون في القرى، بعيدًا عن خيلاء العاصمة المغرورة، لا تعدم أن تجد نفرًا من البكوات القدامى والمحدثين يسعى إلى افتتاح عركة من أجل الوصاية على حراكٍ ما زال يحبو وئيدًا، وحده، ممتلئًا بحلم التطور إلى ثورةٍ لم تولد بعد.
علمتنا أيامنا، وقالت لنا تجارب الشعوب والأمم إنه ليست هناك ثورة تولد مكتملة، إذ تبدأ الحكاية بجنين غضب يتخلق في الصدور .. ثم ينتقل إلى الأرض فينمو ويكتمل.. أو يُقتَل.
ينمو طبيعيًا، فيكون ثورة، أو ينمو اصطناعيًا، وبمعدّلات محسوبة ومدروسة من طرف خفي خبير بميكانيزمات الغضب والإحتجاج، فيكون تغييرًا أو تبديلًا. على أنه، في كل الأحوال، سيكون الناس سعداء بالإنتقال من الوضع الراهن، المسكون بكل أنواع العتامة والبلادة والخانق أي أمل في حياة كريمة، إلى أي وضعٍ آخر، حتى لو كان مجهول الملامح والسمات.
قبل نحو أسبوعين، قلت في استقبال "بشاير الغضب" إننا بصدد حراك اجتماعي واحتجاجات مطلبية، تشبه تلك التي مارسنا عليها استعلاءً سخيفًا أيام ثورة يناير 2011 وأسميناها "مطالب فئوية"، وصادرنا حق أصحابها في التعبير عنها والتظاهر من أجلها، بحجّة أن من شأن ذلك أن يعطّل مسيرة الثورة .. فكانت النتيجة أن الثورة خسرت الجماهير، والجماهير خسرت الثورة، وخسرت مصر الثورة والجماهير معًا.
أكرّر أيضًا أن الثابت يقينًا، من واقع حركة التاريخ، أن لا تغيير ولا ثورة إلا بالشعب، الشعب كما هو عليه، بأحواله ومواصفاته هذه، فحن لن نخترع شعبًا جديدًا، ولن نستورد شعبًا آخر يثور أو نصنع به ثورة.
ومن دون ادّعاء وصاية على الجماهير، أو الوقوع في خطيئة التعالي على حراكها العفوي البسيط المستحق، أظن أنه لا بأس من التذكير ببعض مسلمات الحراك الثوري وبديهياته، بوصفه سعيًا نحو الإنعتاق من واقع كئيب ومقبض.
من ذلك أن أول كلامٍ تنطقه الثورة بعد ولادتها هو "إيد واحدة"، فعندما يكون هذا الهتاف البسيط العميق سائدًا في كل مكان، نستطيع أن نقول إن الشعب رزق بثورة.
لا تعرف الثورات الحقيقية خناقاتٍ على حقوق الملكية والحيازة، قبل أن تتشكل ملامحها وتتحدد مساراتها وتتنوّع وتتعدّد، فالثورة كما أفهمها، وكما عايشتها وانصهرت فيها، هي إبداع جماعي، يتجلى في السلوك الحضاري وفي عذوبة نحت الشعارات، وفي بشاشة الهتافات، وفي إرادة التلاحم والتعايش بين المختلفين في الفرع، المتفقين في الأصل .. المتمايزين في الشكل، المتّحدين في الموضوع وعليه.
الثورة لا تطلب الانتقام الثأري، بل تنشد العدل والحق، ولا تعرف العنصرية والتنمّر (بالمناسبة مصطلح التنمر لم يظهر إلا مع موجة الإنقلابات والثورات المضادّة).
الثورة لا تستهدف حرق سيارات القمع والبطش، وليس إعلامًا، ولا ثوريًا، ذلك الذي يحتفل بمشاهد من هذا النوع، أو يعتبرها إبداعًا ثوريًا، أو حتى يبرّرها، حتى لو كان الذين يديرون منظومة القمع قد تركوها عمدًا للجماهير المشحونة بالغضب.
وعلى ضوء كل ما سبق، لا يضرّ أي حراك شعبي نبيل، لا يزال في البواكير، أكثر من خطاب إعلامي وسياسي، تستبدّ به لوثة الثأر مما مضى أكثر مما تضبط إيقاعه ونبرته الرغبة المخلصة في أن يكون ما سيأتي أكثر عدلًا وتحضرًا وإنسانية.
نسأل الله السلامة لمصر وشعبها .. كل شعبها.