انتهى هذا العام ولم أمت بعد...
"انتهى هذا العام إذاً، ولم أمُت بعد، يا له من حدث، يا له من ارتجال". كتب أنيس غنيمة، الشاعر الفلسطيني الشاب العالق في قبرٍ مفتوح منذ أكثر من سنة، مثل باقي الغزّيين. كم هي حقيقيّة وموجعة هذه الجملة على لسان شابٍّ شاركنا تفاصيل الجحيم الذي عاش (ويعيش) فيه الغزّيون.
أن ينجو الإنسان سنة أخرى بعد أن شُرِّد مع الآلاف غيره من الذين دُمّرت بيوتهم، وطُردوا (وطُورِدوا) من الشّمال إلى الجنوب بيد صيّاد يقتل للمتعة وللانتقام، وأن يستشهد معظم من يعرف حتى يصير الموت ضربةَ حظٍّ؛ فتلك معجزة حقيقية.
حقاً صرنا نستغرب نجاة أيّ غزّي، فهي معجزة أن ينجو طفل أو شابة أو شيخ أو أمّ من مجزرة كاملة لعائلاتهم. ولم نعد نُفاجَأ بخبر استشهاد رموز غزّة من صحافيين وأطباء، وأناس عاديين عرفهم العالم، مثل خالد النبهان، الجدّ المُحبُّ غاية الحبُّ لأحفاده، والذي لم يُعرَف بشيء سوى بالحُبِّ والحنان. تخيّل أن يكون الإنسان رمزاً لاتّسامه بالحُبِّ فقط. ماذا يقول هذا عن العالم الذي نعيش فيه؟
بات استشهاد غزّي مسألة وقت فقط، يترك جرحاً في قلوبنا، لكنّنا صرنا لشدّة تكراره بعد استشهاد ما يقارب 50 ألف فلسطيني نتقبّله. مع أننا لا نعرف الأهوال التي عاشها أنيس وغيره من النّاجين، لكنّنا نتخيّل أنه رأى الموت بعينيه، بعد أن دُمّر بيته، وجُوِّع وفُرِض عليه العيش في برد قاتل في خيمة مترهّلة، لأنه ودّع العام الماضي، قائلاً: "هناك قشعريرة أشعر بها الآن للمرّة الأولى، إنّه عن أنني لم أَمُت بعد".
يا له من إنجاز! هل لدى أحدنا ما يُشبه ذلك؟ هل تمنّى أحدنا النجاة من الموت سنةً أخرى فقط، عدا المرضى بأمراض خطيرة؟ وهل من أمنية أخرى يمكن أن تكون جديرةً في مقابل أمنية عيش عام آخر؟... من الصعب على أنيس أن يتخيّل سبباً مقنعاً لنجاته هو، واستشهاد عشرات الآلاف، فآلة القتل لا تفرّق في العمر أو الجنس أو المذهب أو الأيديولوجيا أو الانتماء أو المهنة أو السلوك أو الأخلاق. أو بين أفضل الناس وأسوئهم. لذا فهو محض ارتجال أن يعيش عاماً آخر بدل غيره.
يمكن أن نجد أسباباً مقنعةً لنجاته، فهو شاعر حقيقي، وصوت مُعبّر عن مأساة غزّة. لكن آخرين أيضاً كانوا مهمّين؛ أطباء ومسعفين وصحافيين ومتطوّعين، وأناس أبرياء حياتهم تهمّ أيضاً، فحياة الجميع مهمّة ولو بقدر غير متساوٍ. لكن أي نوع من الحياة، فحياة أنيس والغزّيين خلال السنة كانت سلسلة من المخاوف اللانهائية على حافة الموت؟ ولعل الذين ماتوا مبّكراً هم الذين نجوا فعلاً، لأنّهم نفذوا بأرواحهم من هذا العذاب كلّه.
"وصل إخلاء جديد، هذه المرّة لمنطقة بيتي في الشجاعية، المرّة الثالثة كما أذكر، غالباً هناك بيت تبقّى منه حائط وهم قادمون لهدمه"، ورغم أنه بعيد من هناك، لكنْ "هناك شعور يأتيني بأنهم سيقتحمون في أيّ لحظة، هناك شيء يجعلني أقف على استعداد، وبتوجّس وخشية، أنظر كلّ ساعة من الباب".
هل هناك أمل؟... نعم، هناك أمل طويل وممتد، مثل أمل أنيس في الحياة، ومثل العمر الذي نتمنّاه له، ولكلّ إنسان يعيش وسيف القتلة يلوّح في أُفقه. لن تتغيّر موازين العالم من أجل إنسان أو مكان أو قضية، لكن قد تهبّ الرياح لصالح السفن أحياناً، مثلما حدث مع سورية. صحيح أنها ما زالت تحت قبضة أجنبية تتقاسم مناطقها مثل كيكة شهية، لكنّها حملت سقوط نظام دموي. فتحرّر آلاف المعتقلين، وعاد الأمل إلى المنفيين واللاجئين. قد لا تتحرّر سورية من قبضة القوى الإقليمية قريباً، لكنّها تخلّصت من الشكل الأكثر دموية لهذه السيطرة. ومهما كان القادم فلن يكون أسوأ ممّا مضى، كما نتمنّى جميعاً.
في بداية هذا العام تَخجَل أمانينا الشخصية الصغيرة، على كبرها عندنا، من أُمنيات المقهورين تحت آلة الحرب الصهيونية والشهداء القادمين. وندعو لنجاة ما تبقّى من الغزّيين، وانقلاب ريح الموازين لصالح سفينتهم، وانحدار الجبروت الصهيوني وهو أمر ليس بالمستحيل، على صعوبته.