بايدن أيضاً يُضعف الثقة بالديمقراطية
أزمة الديمقراطية عالمية ومعمّرة، ليست وليدة اليوم، ولا هي من إفرازات ولايتي جو بايدن ودونالد ترامب. صحيحٌ أن بايدن وصل إلى منصبه الحالي على جناح محاربة الشر السياسي المطلق الذي يجسده سلفه الذي ربما يكون خَلَفه أيضاً، بشعبويته وانعدام أخلاقه وفساده وصلافته وعجرفته وحقارته وكرهه الديمقراطية ومؤسّساتها، إلا أن كثيراً من قرارات بايدن وسلوكياته تجعله متورطاً في مسلسل تضاؤل الثقة بهذه الديمقراطية بوصفها أفضل ما توصل إليه تاريخ الاجتماع البشري لإدارة السياسة سلمياً ولبناء مجتمعات حرّة. لا بأس بتذكير سريع عن سجل دونالد ترامب كتكثيف لكل ما هو نقيض للرجل الديمقراطي: لم يشغل وظيفة عامة قبل انتخابه رئيساً عام 2016، يجاهر بكره العِلم والأحزاب والمؤسسات، قضائية كانت أو تشريعية أو رقابية أو إعلامية، يتفاخر بتخلفه وبشعبويته وبإيمانه في نظريات المؤامرة، يشتري الناس وولاءاتهم بالرشوة مثلما يظن أنه قادر على ابتياع جسد أي امرأة بأمواله الكثيرة، هو رجل الأعمال الفاشل على عكس الصورة التي يرغب كثيرون حتى من كارهيه تكوينها عنه وكأنه أفلاطون زمانه في اقتصاد المنتجعات والفنادق وملاعب الغولف، وكل ذلك يفتقد الدقة على ضوء ما صار منشوراً عن إخفاقاته المالية الهائلة واعتماده على القروض وعلى التمويل السياسي ليصرف منها على نفسه وعلى ظهوره المتواصل. الخراب الذي أحدثه ترامب في الداخل الأميركي وفي العالم يصعب حصره في مقال، أما الضرر الذي سيحدثه على العالم في ولاية ثانية محتملة، فإنه قد يشكل ضربة قاضية للديمقراطية لمصلحة وصفات الاستبداد والفوضى والاستعراض النرجسي والتطرف والشعبوية والفردية، من دون الإشارة إلى الأثر الكارثي على العلاقات الدولية وعلى ما تبقى من شروط هشة لصمود الكرة الأرضية مناخياً وصحياً.
مواجهة خطر داهم كهذا تفترض حضور منافس لترامب ديمقراطي للغاية، بما أنه لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين. لكن ما أظهره جو بايدن خلال السنوات الأربع لرئاسته لا يرسم سيرة ديمقراطية فعلاً للرئيس رقم 46 للولايات المتحدة. منذ فاز بايدن في انتخابات 2020، توعّده ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض في 2024. أي أنه كان أمام الديمقراطيين الأميركيين أربع سنوات كاملة لتحضير منافس يكون نقيضاً لكل ما يمثله دونالد ترامب. كانت الشائعة في 2020 تفيد بأن كامالا هاريس اختيرت لتكون نائبة الرئيس بهدف وحيد، هو تحضيرها لتترشح في 2024 ضد ترامب أو أي ترامبي جمهوري آخر بما أن الرئيس البرتقالي أحكم قبضته على حزب الفيل الأحمر. لكن ما حصل بين 2020 و2024 كان معاكساً تماماً لفكرة تأهيل كامالا هاريس. تمّ تجريد نائبة الرئيس من كل الملفات التي من شأنها جلب شعبية لها داخلياً وفي الخارج، وتنمية خبرتها في كواليس البيت الأبيض، ومعرفتها في إدارة السلطة، وإدراكها لتفاصيل العلاقة بين الشيوخ والنواب في الكونغرس، كل ذلك ليكون بايدن المرشح الديمقراطي الحصري، بأعوامه الـ82 وبحالته الصحية ــ الذهنية السيئة التي تجعله يحوّل إيمانويل ماكرون إلى فرانسوا ميتران (تخيلوا كم يُظلم ميتران في قبره)، وأولاف شولتز يصبح معه هلموت كول (بعيد الشبه)، ثم يشرئب غضباً حين يصفه المحقق الخاص في لياقته الذهنية روبرت هور بأنه "رجل مسن ذو ذاكرة سيئة"، ويؤكد أنه بحالة ذهنية ممتازة، بدليل أنه تحدث مع رئيس المكسيك قاصداً المصري عبد الفتاح السيسي، وذلك في المؤتمر الصحافي نفسه الذي عقده ليرد على تقرير هور، أي بعد دقائق قليلة على قوله إنه "لا يعاني مشاكل في الذاكرة".
ما الذي يعنيه إصرار بايدن على أن يكون هو المرشح في وجه ترامب في 5 نوفمبر/تشرين الثاني رغم حالته الذهنية المزرية؟ هل فعلاً انعدم وجود الديمقراطيين النساء والرجال القادرين على الترشح للرئاسة الأميركية لكي يضطر بايدن إلى تحمّل هذه البهدلة، ولكي يصبح مسخرة العالم في مشاهد فقدانه الإدراك والتوازن وإضاعة سبيله خلال سيره حيناً، وخلطه بين الشخصيات والأحداث، ونسيانه أسماء من لا يمكن لرئيس أقوى بلد في العالم نسيانها؟ أم أنه التمسك المرضي بالسلطة؟
في كلتا الحالتين، ترشُّح بايدن للرئاسة انتكاسة للديمقراطية، وخدمة لا تُقدر بثمن لأعدائها. كل ذلك من دون قول كم أنه يُضعف ثقة الملايين بالديمقراطية وبالسياسة وبالإنسانية في كل مرة يتقيأ دعماً مطلقاً لوحشية إسرائيل وتزلفاً لحكامها الدمويين ولأكاذيبهم، وفي كلّ مناسبة يخبرنا فيها أنه ليس على المرء أن يكون يهودياً لكي يكون صهيونياً.