برنارد ليفي .. رسول استعماري بغطاء حقوق الإنسان
بدا واضحا، في الأشهر الأخيرة، أن هناك محاولة مكثفة لتسويق "الفيلسوف" الفرنسي هنري برنارد ليفي، ليس داعيةً لحقوق الإنسان فحسب، وإنما مهندسا لعالم جديد على الحكومات أن تأخذه بجدّية، وتتبنّى الأسس التي يحاول وضعها للعلاقات الدولية.
في نظر كثيرين في مناطق عديدة، ومنها العالم العربي، برنارد ليفي هو "المدافع" عن الشعوب ضد الديكتاتورية والاستبداد، لديه القدرة على الظهور في كل مكان، من شمال العراق إلى أفغانستان مرورا بليبيا، وأخيرا في وسط الحرب في أوكرانيا "رسولا للسلام والإنسانية"، وكأنه جيفارا العصر، وشتّان بين المناضل الثوري الإنساني تشي جيفارا، ومروّج للصهيونية وإسرائيل، يبرع في توظيف مفاهيم حقوق الإنسان في خدمة الحكومات الغربية.
كسب ليفي إعجاب كثيرين في العالم العربي بادعائه تأييد الثورات العربية، ولم ينتبهوا إلى خطابه وأهدافه، مع أنه شديد الوضوح في انحيازاته العلنية، وصداقاته مع قيادات إسرائيلية ومشاركاته في مؤتمرات منظمات الصهيونية، فهو منظِّر "الاستثنائية اليهودية" و"الاستثنائية الإسرائيلية" اللتين يجب أن توضعا فوق شبهات الإجرام والعنصرية، بل إسرائيل، في رأيه، منارة "للديمقراطية الفريدة من نوعها"، وأي نقد لها يساوي، في نظره، تجسيدا لما يسمّيه المفهوم "الجديد" للعداء للسامية.
برنارد ليفي منظِّر "الاستثنائية اليهودية" و"الاستثنائية الإسرائيلية" اللتين يجب أن توضعا فوق شبهات الإجرام والعنصرية من وجهة نظره
ليست مشكلة برنارد ليفي في يهوديته، وهو ليس متدينا أصلا، لكنها في محاولته إثبات أن "عبقرية اليهودية" (عنوان كتاب له) تكمن في دورها الطليعي في نشر حقوق الإنسان، بحكم أن اليهود كانوا ضحية للمحرقة، وبالتالي؛ تجعل تلك الجريمة التي ارتكبتها ألمانيا النازية الحركة الصهيونية وإسرائيل مصدرين للقيم الإنسانية، لذا؛ فأي مسّ بالصهيونية أو إسرائيل يقترب من ارتكاب جريمةٍ بحق الإنسانية جمعاء. لقد حاول، في خطاب له أمام الأمم المتحدة عام 2015، تجريم حتى فكرة الحديث عن معاناة الفلسطينيين، بقوله إن هناك محاولة لاعتبار اليهود "كريهين" أو "مقيتين" (وفقا لتعبيره) لمجرّد تأييدهم دولة اسرائيل ودعمهم لها، بناء على إشاعة وهمِ مظلومية متخيلة عن اضطهاد إسرائيل الفلسطينيين"، في إنكارٍ صريحٍ ووقحٍ لمظلومية الشعب الفلسطيني ومعاناته.
ما يدعو إلى السخرية أن الصحف الغربية احتفت به، ومستمرّة بالاحتفاء بـ"الفيلسوف" الذي ينشر فكرةً تتناقض مع أي فلسفةٍ تقدّمية، وهي أن اليهود في العالم مجموعة واحدة استثنائية، وهو تفكير يحمل، في طياته، عنصريةً هي مرآة للعداء للسامية التي ترى اليهود مجموعة واحدة تحمل فكرا وصفات مشتركة، اعتبرتها أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وحتى منتصفه، خطرا يجب التخلص من وجوده في أوروبا. هنا ليفي يربط اليهود بإسرائيل، مصوّرا ضمنيا أن على كل يهودي اعتبار إسرائيل حاميته وممثلته، وأن إنكار معاناة الشعب الفلسطيني شرط لمواجهة خطر معاداة السامية.
دوائر صنع القرار والإعلام الغربي يستغلان مظلومية الشعب الأوكراني، لتسويق مفاهيم قبيحة تبرّر "الاستثنائية الأميركية" و"الاستثنائية الإسرائيلية" لمعايير حقوق الإنسان
خلال الانتفاضات العربية، نظر ناسٌ عديدون، ولا يزال بعضهم ينظر، إلى برنارد ليفي أنه حامي الثورات في كل العالم، على الرغم من أنه لا يواري خدمته الاستعمارين، الأميركي والأوروبي، ولا يخفي تموضعه موظفا في خدمتهما، قد يكون ذلك لغياب الربط بين مطالب الشعوب بالحرية والعدالة الاجتماعية ولاعتقاد كثيرين أن القضية الفلسطينية ليست القضية الوحيدة في المنطقة.. وهذا صحيح؛ إذ إن تصوّرها القضية التي يجب أن تطغى على مطالب الشعوب العربية وكفاحها ضد الاستبداد خطأ جسيم، ويعبر عن قصر نظر خطير. في الوقت نفسه، هناك ضرورة لاستعادة الوعي لترابط القضية الفلسطينية مع قضايا الشعوب، فالكفاح من أجل الحرية والعدالة مطلب لا ينفصل عن الكفاح من أجل التحرّر الوطني، والمشروع الصهيوني لا يزال يمثل خطرا على كل الدول والشعوب العربية، فالفصل بين القضايا يخدم المستبدّين وأمثال ليفي، فهو لا يخجل من ترويج الكراهية والعنصرية وتأييد جرائم إسرائيل، فيما يحاول إقناع الشعوب بأنه حريص على حقوقها، وكأن لقب "فيلسوف" يجعله فوق النقد والشبهات، متظاهرا أنه من منظِّري "يسار جديد"، هو في حقيقته مصطنع لتبرير جمعه بين تعبيرات يسارية والفكر الاستعماري.
انتبه ناشطون ومثقفون عرب إلى زَيف ليفي، لكنهم اعتبروه "عرّاباً للثورات العربية"، وهذا أيضا غير صحيح، لأن فيه إنكار لمشروعية الانتفاضات الشعبية ضد الاستبداد، وتصويرها أنها جاءت نتيجة خطةٍ أميركيةٍ غربيةٍ مسبقة، كان ليفي أحد رموزها ومنفذيها .. ونعم، كان، ولا يزال، رمزا للتدخل الغربي، وأداة لمصادرة خطاب الثورات وخطفها. ونعم، هناك مِن الانتهازيين من رحّب به، بل وكان أداة له وللغرب، لكن الأغلبية الساحقة التي نزلت إلى الشوارع نزلت لتطلق صرخة ألم، وأملا بالتخلّص من نير الاستبداد والفقر والاستغلال والتعذيب، فلا يمكن استخدام كشف حقيقة ليفي في تجريم الشعوب التي انتفضت أو إنكار مظلوميتها.
انتبه ناشطون ومثقفون عرب إلى زَيف ليفي، لكنهم اعتبروه "عرّاباً للثورات العربية"، وهذا غير صحيح
يدلّ التركيز المتجدّد في الإعلام الغربي على برنارد ليفي على أن دوائر صنع القرار والإعلام الغربي يستغلان مظلومية الشعب الأوكراني، لتسويق مفاهيم قبيحة تبرّر "الاستثنائية الأميركية" و"الاستثنائية الإسرائيلية" لمعايير حقوق الإنسان، فتُظهِر ليفي كأنه مزيج من مثقف "راقٍ" ونجم "سينمائي" إلى "شجاع مقدام" لا يهاب الحروب، مع أنه دائما يكون بحماية الجيش الأميركي، وجيش مؤيد لأميركا، وتستمر "كذبة الفيلسوف ليفي"، لأنها ضرورية، فالاستثنائيتان، الأميركية والإسرائيلية، تجعلان أي غزو واحتلال قامتا به القوات الأميركية، في العراق وغيره، ضروريين للحفاظ على الإنسانية، وتلميع المشروع الكولونيالي الصهيوني، في وقت زادت جرائمه وضوحا للرأي العام الغربي والعالم، وهنا يجيء الممثل الفاشل "السيد برنارد ليفي". ومهمته لم تتغير؛ فالادّعاء بتأييد كفاح الشعوب العربية ضد الاستبداد، كما شرح ليفي نفسه في جامعة تل أبيب عام 2017، فقد شرح، وبجانبه على المنصّة وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيفي ليفني، أنه كان يأمل أن الانتفاضات العربية ستغيّر رأي الشعوب العربية أن إسرائيل هي العدو الرئيسي، وأن زوالها يحقق لهم الحرية والعدالة، فلم يكن معنيا بنتائج الثورات، بل كان، ولا يزال، معنيا، كما أميركا وإسرائيل، بمسح القضية الفلسطينية من الوعي العربي، وإشاعة وهمِ أنّ ذلك شرط لمجتمعات عربية حرّة وعادلة.
لم يتوقّف ليفي عن زياراته إلى المنطقة، وكان نشاطه في ليبيا علنيا ومعروفا، لكنه كله ضمن الحسابات الغربية الإسرائيلية التي لا ينكرها، بل يروّجها، ازدواجية معايير الدول الغربية واضحة، لكن الحذر مطلوب وملحّ من وجه "حضاري" يمتهن "الفلسفة"، ويبدع بترديد مصطلحات حقوق الإنسان، وليفي ليس الوحيد، لبيع الوهم وزرع مفاهيم العبودية في الشعوب.