برهان غليون في سؤال المصير العربي
يسعى المفكر السوري، برهان غليون، في كتابه "سؤال المصير" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2023)، إلى إعادة قراءة الوقائع التاريخية، ونقد المفاهيم التي يعتبر أنها تحوّلت إلى بدهيات، أو أوثان، بسبب استخدامها حقائق مطلقة وثابتة، كي يُبيّن أن لا شيء استثنائيا، أو يصعُب فهمه باعتماد العلوم الاجتماعية الحديثة، فيما شهده العالم العربي من تحوّلات وأحداث منذ قرنين، وأنّ قراءة نقدية لها تستطيع إعطاء معنى لهذا التاريخ ووقائعه المتناقضة والمفارقة.
إذاً، يجري التعويل على تقديم قراءةٍ مختلفة، لفهم ما حصل للمجتمعات العربية منذ أن أقحمت في الحداثة، تنهض على التخلّي عن منهج البحث، الذي سبق أن تناول سبب تخلّفها الحضاري في الماضي، دينياً كان أم زمنياً، ومعه مفهوم الاستثنائية العربية، الذي يحيل مسألة تأخر العالم العربي، أي إخفاقه المستمر في الارتقاء بتنظيماته إلى مستوى المؤسسات الحديثة السياسية والاجتماعية والثقافية، إلى خصائص ذاتية متعلقة بطبيعة الدين أو العصبيات الطائفيّة أو القبلية، وإلى مقاومتها الحداثة وقيمها، والانتقال إلى البحث في تاريخ الحداثة نفسها، عبر النظر في الشروط التاريخية، التي حكمت اندماج المجتمعات فيها، ومن ثم إعادة تشكلها في صورها الراهنة، الأمر الذي يفضي إلى قلب معنى الاستثناء العربي، إذ بدل أن يكون التخلّف ثمرة إرادة الشعوب في البقاء خارج الحداثة، بسبب تعلّقها بتراثها وماضيها، فإنه يغدو مرتبطاً باستثناء الدول الصناعية الكبرى، التي تتحكّم في عوامل الحداثة المادية والتقنية وتصنيع الإيديولوجيا أيضاً، لهذه المجتمعات المتأخرة من التقدم، بغية دوام احتفاظها بالسيطرة على الموارد والأسواق، والحدّ من خطر ظهور قوى جديدة اقتصادية واستراتيجية منافسة لها، لذلك عملت على إفشال مشاريع التحديث العربي الوطنية.
يلجأ غليون في نقده مفهوم الاستثناء إلى قلبه رأساً على عقب، وتحميل دول الغرب، أو ما يسمّيها الدول الصناعية الكبرى، مسؤولية الإخفاق العربي في السير على طريق التقدّم، ودخول أبواب الحداثة، وذلك في معرض إجابته عن السؤال، الذي سبق وأن طرحه مفكّرون ومثقفون عرب عديدون معاصرون وأسلافهم، حول سبب تقدّم بلدان الغرب وتأخّر بلدانهم، وينطلق منه لطرح سؤال المصير العربي. لكنه، يلقي باللائمة على قوى الخارج، دول الغرب تحديداً، ويحملها المسؤولية في إعاقتها، أو منعها، العالم العربي من الدخول في الحداثة والسير في طريق التقدّم، مع أن المفكّرين العرب سبق وأن انقسمت إجابتهم عن هذا السؤال بين من حمّل المسؤولية لقوى الخارج ومن حمّلها لقوى الداخل.
أوروبا التي شجعت مشروع الإصلاحات العثمانية التي سميت بـ"التنظيمات"، على أمل المحافظة على فريستها، هي من انقض عليها حين حان الوقت
يستعين غليون بما وصفه قبل قرنين المصلح التونسي، أحمد بن أبي الضياف، التحدّي الحضاري التاريخي، الذي ينتظر العرب والمسلمين، حين سبقهم الغرب إلى الحضارة بأحقاب من السنين، وبات "بيننا وبينهم بون بائن"، كي يجادل بأن العرب والمسلمين لم يقاوموا الحداثة، بل كان لديهم وعي بالتاريخ حين أقحموا بها، إذ أن العرب اختبروا هذا "البون البائن" منذ الحملة البونابارتية (نسبة إلى نابليون بونابارت) على مصر والشام (1799)، فالجبرتي (عبد الرحمن)، الذي انتقد الاحتلال الفرنسي، لم يُخف "إعجابه بالكثير من تنظيماتهم وعلومهم وأنظمتهم"، و"تقديره لسلوكهم، مثل مثابرتهم على العمل، واهتمامهم بالأعمال الإنشائية الكبيرة، وإعطائهم العمال أجورهم". وقد بدأت محاولات الإصلاح، وكسر جمود النظم القديمة منذ بدايات القرن التاسع عشر، حين لم يعتبر محمد علي، ولا السلطان العثماني سليم الثالث ومن بعده السلطان محمود الثاني، أن تحديث الجيش والإصلاحات أو التنظيمات، تتناقض مع الدين. ودافع عن مشاريع التحديث العلماء والإداريون والمثقفون الجدد، أو بالأحرى من باتوا يعرفون بمثقّفي الحداثة، حيث عبّر خير الدين التونسي عن حتمية التحديث الذي شبّهه بالسيل المتدفّق على الأرض، الجارف للممالك المجاورة لأوروبا. ولم تمانعه النخب، بل اعتبرته مسألة استراتيجية وجيوسياسية تتعلق بمصير الدول وتوازنات القوى. كما لم يجر تناوله من زاويةٍ دينية، إنما وجدت مشاريع التحديث من يتبنّاها، وشارك في تنفيذها، فيما أسهم تطبيقها في "نشر التعليم وبناء المدارس وإصلاح البنية التحتية وإصلاح أحوال الفلاحين، وتجديد قوانين الملكية ونشر الأفكار السياسية الجديدة، في تشكيل نخبة تحديثية وحديثة معاً، وفي حرمان رجال الدين من أن يحتكروا النقاش في المسائل العمومية".
يرى غليون أن المثقف الحديث ولد في سياق الاحتفاء بالتقدّم الأوروبي، الذي تميّز عن عالم الدين والفقيه، وتولّى حمل إرث الحداثة، خصوصا مع ازدهار الصحافة وحركة النشر والجامعات، وظهور أنواع ثقافية وفكرية جديدة. وفي المقابل، عمل التحديث على تهميش دور العلماء والفقهاء ورجال الدين. ولم يمنع ذلك من بروز اتجاهاتٍ ودعواتٍ إصلاحيةٍ دينية، كان كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أبرز روّادها. لكن غليون يعتبر أنّ "ربط المجتمعات الإسلامية بعجلة التقدّم العلمي والتقني هو الذي جمع فصائل النخب الإسلامية الإصلاحية والعلمانية في ذلك الوقت حول عقيدةٍ واحدةٍ، هي الإيمان بالتقدم التاريخي ضد الجمود والانحطاط". إضافة إلى أن تأثر رواد الإصلاح الإسلامي الأوائل بفلسفة عصر التنوير التي سادت في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، لم يكن "أقل من تأثر جميع المفكرين الآخرين بها"، لكنهم ركزوا على مواجهة الاستعمار، وتبنوا موقفاً إصلاحياً من الدين، وليس موقفاً نقدياً. وعليه استقر اعتقاد لدى العرب، على مختلف انتماءاتهم الدينية واتجاهاتهم السياسية، على أن العقبة الرئيسية أمام تقدّم المجتمعات العربية وتحررها من انحطاط الماضي، تكمن في السيطرة الاستعمارية، الأمر الذي غيّر الأولويات النهضوية، إذ بسبب الاستعمار تأجل الحديث في الإصلاح الديني، والتجديد الثقافي لحساب النشاط السياسي الوطني. وهذا الاعتبار مختلفٌ عليه، لأنه يجري تحميل الاستعمار مسؤوليات كثيرة، ويحتاج إلى مساحة أوسع للنقاش. ويكفي التذكير بأن أوضاعنا العربية، لم تكن أفضل حالاً في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث لم تضع بلداننا قدماً في طريق التقدّم المنشود، بل أسدل الستار على حلم الخروج من التخلف، واللحاق بالدول المتقدّمة، وذلك مع الانقلابات التي تمخضت عن استيلاء العسكر على السلطة، وإشادة أنظمة استبدادية شمولية، فيما يعتبر غليون أن انقلاب مصر عام 1952 (يسميه ثورة الضبّاط الأحرار) مثّل نقطةٍ فاصلةٍ بين عهدين في السياسة والفكر في العالم العربي، وفي المشرق بشكل خاص، وأنه عبّر عن انسداد طريق التقدم الليبرالي والإصلاحي الإسلامي معاً والردّ عليه في الوقت نفسه. وبات "تدشين المشاريع والمؤسسات الصناعية والتقنية أو تعميم الخدمات الاجتماعية، ورعاية المصالح الأساسية للطبقات الشعبية من عمال وفلاحين" شكّل مصدر الشرعية لهذا النمط من الأنظمة السياسية أكثر بكثير من الأيديولوجيا أو الانتخابات التمثيلية. ولم يعد التقدّم يتماهى مع توسيع دائرة ممارسة الحرّيات الفردية، بل مع حل مشكلات الفقر والبطالة.
يسعى غليون إلى تقفي مفارقات الحداثة، والكشف عن نزعات العنصرية لدى مفكرين وفلاسفة ومستشرقين غربيين
يتساءل غليون عن كيفية انقلاب التاريخ، حيث إن كل ما كان يثير التفاؤل أصبح يثير الإحباط، ويلجأ إلى لعنة الجغرافيا السياسية، كي يتحدّث عن الحداثة المغدورة، وعن الكيفية التي صنع الغرب بواسطتها الشرق الكسيح غليون، مفترضاَ أن تغيير الحدود، سواء بالإلحاق، أم تفكيك الدول القائمة وتقسيمها، أم بناء تحالفات أو اتحادات فعالة في ما بينها، هو أحد السبل الرئيسية لقلب التوازنات أو تثبيتها على مستوى الصراع الدولي، الشامل والإقليمي على الهيمنة على القرار الدولي. فقد أدت العوامل الجيوسياسية وسياسات القوة وتوازناتها في القرنين الأخيرين، دوراً حاسماً في رسم خرائط منطقة الشرق الأوسط، المصابة بلعنة الجغرافيا، وتحديد مواردها ونوعية الدول أو الدويلات المسموح بها، وطُبقت عليها سياسة واستراتيجيات مدروسة لحرمانها من تجاوز حدود معينة في ميزانً القوة، ومنعها امتلاك فرص تعزيز الثورة الصناعية والتقنية والعلمية، والدولة - الأمة، والديمقراطية. ووفق هذا الفهم، جرى التعامل مع "المسألة الشرقية"، حيث إن أوروبا التي شجّعت مشروع الإصلاحات العثمانية التي سميت بـ"التنظيمات"، على أمل المحافظة على فريستها، هي من انقضّ عليها حين حان الوقت، وهي التي أجهزت على مشروع محمد علي باشا في مصر، بوصفه أول مشاريع التحديث خارج القارّتين الأوروبية والأميركية، فقامت بتحطيم قوته في معركة "نافارين"، ومن بعدها أجبرته على الانسحاب من سورية، وعلى الانكفاء في مصر، والانصياع لما تريده بريطانيا وفرنسا. والأمر ذاته ينسحب الشريف حسين، الذي أراد التحالف الفرنسي البريطاني تلقينه الدرس لرفضه اتفاق سايكس بيكو، وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وعلى جمال عبد الناصر الذي رفض حلف بغداد. وهو الدرس نفسه الذي عرفته الجزائر في سبعينيات القرن الماضي، عندما أخفق هواري بومدين في إقناع الدول الصناعية بإقامة نظام دولي جديد، والأمر ينطبق على صدّام حسين بعد غزوه الكويت، حين قامت الولايات المتحدة بتدمير العراق. والغريب أن غليون يرى أن الأمر نفسه تكرر بعد عقدين مع الثورات العربية ومصيرها، التي لم تجد من يُؤمن بها في الغرب، فيما لا يشير إلى دور الأنظمة العربية، التي عملت جاهدةً على وأد وتدمير هذه الثورات، بوصفها تشكل خطراً عليها.
يسعى غليون إلى تقفّي مفارقات الحداثة، والكشف عن نزعات العنصرية لدى مفكّرين وفلاسفة ومستشرقين غربيين، من أمثال أرنست رينان وماكس فيبر وبرنارد لويس، وعن سبل إنتاج السيطرة الغربية، التي جعلت الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الاستعمار بحال أسوأ مما قبلها، ودفعته إلى إخفاق ذريع، دفعت ثمنه شعوب المنطقة، التي تسعى جاهدة إلى تصفية الآثار الكارثية للحقبة الاستعمارية، ومعالجة الأعطاب والاختلالات التي أورثتها للمجتمعات. وبرزت نزعات تصنيف للشعوب إلى أعراق، بهدف ترويج تفوّق العرق الأبيض الأوروبي. وخاض في ذلك أرنست رينان، الذي تصدّى لأطروحاته جمال الدين الأفغاني، وخصوصا ادعاءه بأن المسلم يحتقر العالم، و"الإسلام في طبيعته يتناقض مع العلم ومع الفلسفة ويضر بالعقل". ولم يقف الأمر عند رينان، بل وصل إلى ماكس فيبر، الذي أرجع "تخلف عالم الإسلام، إضافة إلى نمط السلطة وسيطرة النزعة الجبرية وتسليم المسلم للقدر وما ينجم عن ذلك من ذهنية سلبية تجاه التاريخ والمصير والواقع". وانسحب الأمر إلى ما حاول برنار لويس ترويجه، حين اعتبر أن "رفض المسلمين للحداثة تعبير عن البنية العميقة للإسلام كما يمثلها الفقه الإسلامي". كل ذلك من أجل إعادة إنتاج "المشرق الكسيح" الذي صنعه الغرب بالقوة.
لا يشير الكتاب إلى دور الأنظمة العربية التي عملت جاهدة على وأد وتدمير الثورات بوصفها تشكل خطراً عليها
يمتد سجال غليون إلى ما يسمّيها الأطروحات الثقافوية لمفكّرين عرب، وجدوا أن المشكلة تكمن في تمسّك العرب الشديد بتراثهم، الذي يعطي الأهمية للدين على حساب العقل، وصار إصلاح العقل العربي المدخل إلى إصلاح المجتمع والنظام السياسي. والغريب أن يبدأ من كتاب صادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وكتاب عبد الله العروي "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وكتاب ياسين الحافظ "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة"، تلك التي ركزت على نقد الذهنية العربية إجمالاً، وعلى الشخصية العربية، وذلك في سياق البحث عما اعتقده جيل كبير من الباحثين والمفكرين، وخاصة عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، أنه "العقبات الكأداء التي تحول دون اكتساب أو تمثل الذهن العربي مناهج التفكير العقلي والانفتاح على المعرفة العلمية والتجاوب معها، ومقاومة الحلول والطروحات السحرية التي تمطرهم بها التيارات السلفية". وبناءَ عليه، يرى غليون أن أطروحات العقلانيين العرب تعيد إلى الذاكرة أطروحات "الاستشراق الرئيسية، التي عزت أيضا مسألة تأخر العرب أو تخلفهم عن الركب إلى تمسكهم بتراث قديم لا يتوافق مع متطلباتها ولا يدرك شروط توطينها"، فيما وجهت "التطوّرات التي شهدتها المجتمعات العربية، "صفعة قاسية للمثقفين ونظرياتهم الأيديولوجية العقلانية والحداثوية التي اشتغلوا عليها عقودا طويلة"، وانتهى الأمر إلى "أن الإسلاميين السلفيين اجتاحوا الساحات الفكرية والثقافية والسياسية وأخرجوا النخب العقلانية والعلمانية خارج ساحات الصراع وبقي الفكر العقلاني يراوح مكانه من دون أن يتجاوز عتبة الوعظ والتبشير".
يعود غليون إلى السؤال الذي طرحه مفكّرون عرب كثر، بشأن أسباب تخلف العرب، التي أرجعها بشكل رئيسي، النهضويون أنفسهم، إلى ما سمّوه الانحطاط، الذي لم يكن ثقافياً فحسب، بل علمياً وتقنياً واجتماعياً واقتصادياً أيضاً، لذا، من غير الصحيح أن القطع مع هذا التراث أو إعادة تأويله هو المدخل والطريق إلى التقدّم. ويرى أن عبد الله النديم الذي أحسن في طرح السؤال في صيغة "بمَ تقدّم الأوروبيون وتأخّرنا والخلق واحد؟"، لا يمكن العثور على إجابته في التراث مهما فعلنا، وأن الجواب عليه يقود إلى الاشتباك مع سلطات الأمر الواقع، الداخلية والخارجية، ويستدعي نقد الخطط والخيارات الاستراتيجية والسياسية، التي تبتها النخب الحاكمة والمثقفة". هنا، يلتقط غليون الجواب عن السؤال المطروح، المتمثل في أن أسباب التأخّر والتخلف تكمن في الداخل بشكل أساسي، ولا تُحال إلى الخارج فقط، مثلما فعل في مواضع من كتابه، لأن المسؤول الأول والرئيس هي الانقلابات العسكرية، وأنظمة الحكم الاستبدادية والشمولية، التي عملت على كبح كل ممكنات التقدّم الاجتماعي (الكفاية المادية)، والسياسي (الحكم الديمقراطي)، والثقافي (حرّية الرأي والحوار والاحترام المتبادل). كما عملت على قتل روح المبادرة الحرة لدى الأفراد والجماعات، من أجل أن تبقى في السلطة إلى الأبد، فيما أثبتت تجارب كل من ماليزيا وإندونيسيا وتركيا، أن من الممكن للشعوب الإسلامية أن تشق طريقها في التقدّم والحداثة، حين تنال الشعوب حريتها، وتتخلص من الديكتاتوريات، وتصبح الأنظمة ديموقراطية، الأمر الذي يفسر أن مطالب كل الثورات العربية كانت تتمحور حول الخلاص من الاستبداد ونيل الحرية والديمقراطية.