بطش قيس سعيّد
أبدى الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أخيراً، انزعاجه من التدخّل الخارجي في شؤون البلد الداخلية، وطلب استدعاء سفراء أجانب للاحتجاج على تدخّلهم، وإن لم يُخبرنا، وهو المُحبّ للاستفاضة في الكلام، كيف يتحقّق هذا التدخّل ومدى ارتباطه بمواقف سفراء من إمعانه في هدر حقوق وحريات شعبه. ومن غير المعروف الحدّ الذي يمكن أن يذهب إليه سعيّد في الاحتجاج، إذ لا يمكن استبعاد أيّ خطوة منه، لكنّ موقفه هذا يبدو تفصيلاً صغيراً في مشهد أوسع وأخطر، يصرّ الرئيس التونسي على جرّ البلاد إليه، غير آبه بكلّ التحذيرات الداخلية.
ما يجري في تونس، منذ الانقلاب الذي قاده في 25 يوليو/ تموز 2021، على النظام السياسي والحياة البرلمانية والديمقراطية، يتخطّى التوقّعات بمراحل كثيرة، إذ لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن يكون في جعبة سعيّد، أو أدوات حكمه، ما يفاجئ به التونسيين من تغوّل على ما تبقى من مظاهر الحياة السياسية. وكلمّا كانت تونس على موعد مع استحقاق سياسي/ انتخابي، ولو مفصّل على مقاس سعيّد، استنفرت أجهزته لضرب أيّ أصوات معارضة. ما يجري في الأيام الأخيرة من سوابق، لجهة اقتحام دار المحامين، واعتقال محامين والاعتداء عليهم، وحتّى صحافيين، ليس سوى فصل من فصول جريمته المُمتدّة منذ 2021.
خلال حملته الانتخابية، وما قبلها حتّى، كانت لدى سعيّد رؤية واضحة للأحزاب، بوصفها على هامش الدنيا، وفي حالة احتضار، وستنتهي أدوارها عاجلاً أم آجلاً، ومع ذلك تمّ تجاهلها، وتلقّى ما يكفي من الدعم للوصول إلى الرئاسة، قبل أن تدفع القوى، التي تورّطت في مساندته للوصول إلى قصر قرطاج، ثمناً باهظاً لاحقاً. ليس لدى سعيّد ما يخفيه، سواء تعلّق الأمر بعدائه للأحزاب أو المجتمع المدني أو النقابات أو البرلمان أو الولاة أو المجالس الجهوية أو الصحافيين. لكنّ مخطّطاته تجاههم تتدرّج وفقاً لسلّم أولوياته. أدرك سعيّد، مُبكّراً، أنّ فتح المعركة بتوقيت واحد في وجه الجميع غير مفيد، إذ من شأن ذلك أن يُوحّد الأطراف المُستهدَفة ضدّه، ويعقّد تنفيذ مخطّطاته، ولذلك، اختار ضرب هذه القوى الواحدة تلو الأخرى، بما يضمن له تحييد الباقي عن المعركة إلى حين. وبالفعل نجح إلى حدّ بعيد، إذ قطع أشواطاً في تحقيق كثير من أهدافه، لكن يبدو أنّه يعيش حالة ارتباك مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، والتي لم يحدّد موعدها النهائي، إلا أنّه، وفقاً لأحدث تصريح للمتحدث باسم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات محمد التليلي المنصري، لـ"العربي الجديد"، فإنّ تاريخها لن يتجاوز 23 أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، أيّ أنّ تونس أمام خمسة أشهر مفصلية من التصعيد. موجة الاعتقالات، التي تلاحق سياسيين وصحافيين ومحامين، تبدو أنّها في طريقها للاتساع، على قاعدة أنّه لا صوت يفترض أن يعلو فوق صوت الرئيس وفِكَرِه، وأنّ أيّ انتقاد لسياساته يمكن تطويع القانون لقمعه. ولذلك ليس مستغرباً أنّ جل من أعلنوا نيتهم الترشّح للاستحقاق الرئاسي وجدوا أنفسهن إمّا في السجن أو ملاحقين بتهم عدّة، وحتّى من لم يعلنوا نيّة كهذه، ولكن سعيّد يرى أنّهم قد يفكرون بخطوة كهذه، لاقوا المصير نفسه.
يعي سعيّد أنّ كلّ ما فعله، ولقي في فترة تأييداً نسبياً في الشارع، لا يحظى اليوم بالرضا نفسه. فنسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور بلغت 30.5%، في عام 2022، لكن سرعان ما جاءت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية، التي لم تتخطَ عتبة الـ12%، في دورتيْها الأولى والثانية، لتؤكد انحدار المشاركة الشعبية نتيجةً للأزمة السياسية التي تغرق فيها البلاد، وهو ما منح القوى المُعارِضَة لسعيّد فرصةً للضغط من خلال التشكيك بشرعية الاستحقاق والنهج الذي يسير عليه سعيّد. والأخير يخشى أن تشكّل الانتخابات الرئاسية انخفاضاً إضافياً، وإن تحقّق له ما يريد بالحصول على ولاية رئاسية ثانية. وإذا كان السؤال بشأن ما يمكن أن يقدم عليه سعيّد، خلال الأشهر المقبلة، مشروعاً، بعد كل ممارساته في السنوات الماضية، فإنّ التساؤل مشروع أيضاً بشأن أداء القوى المُعارِضَة وخططها للمواجهة السياسية.