بندر يُفتينا في أمين الحسيني
سقى الله تلك الأيام، لمّا كان في وسع الفلسطينيين أن يخاصموا جمال عبد الناصر لقبوله مبادرة روجرز، وتدعو فصائل منظمة التحرير "الجماهير" إلى التظاهر ضدّه، فيفعلوا هذا في مخيم الوحدات في عمّان. سقى الله أياما، كان في وسع الفلسطينيين إبّانها أن يشهروا، أمام الحبيب بورقيبة، في أريحا رفضهم نصيحته لهم بقبول التنازل عن نصف وطنهم. سقى الله أياما كان الفلسطينيون ينازلون زعاماتٍ من هذا الوزن الثقيل، فيما هم اليوم يجدون أنفسهم مضطرّين للتورّط في مجادلة بندر بن سلطان الذي يغالب الواحدُ منا عنتا شديدا إذا ما أراد الوقوع على موقفٍ في سيرته يسرّ الخاطر، وهو الذي تلْقى له (مثلا ليس إلا) تصريحا لمحطةٍ تلفزيونيةٍ أميركيةٍ في العام 1991، يرى فيه حل قضية فلسطين بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ في الأردن. ولكنها القيعان التي يقيم فيها الحال الفلسطيني، معطوفةً على التدهور المريع في المشهد العربي العام، يفسّران فائض الثقة بالنفس التي ظهر فيها، قبل أيام، الأمير السعودي، وهو يسرد على شاشة قناة العربية من عنديّاته تاريخا للصراع العربي الإسرائيلي، ويفسّران، لا ريب، اختناق الفلسطينيين وهم يردّون على الرجل، في غير منبر، ويرجو بعضُهم "الإخوة السعوديين" إن أرادوا تطبيعا مع إسرائيل، فلهم هذا، وإنما من غير داع للانتقاص منا، ومن قياداتنا، وتاريخنا، وحاضرنا، وذلك كله لأن الفلسطينيين رفضوا التحالف بين الإمارات (والبحرين) وإسرائيل.
أدّت نخبةٌٌ فلسطينيةٌ عالية الثقافة، أخيرا، (أبرزهم خالد الحروب)، واجبَها في الردّ العلمي على بندر، وفي الحَجاج معه. ونبشت تعاليقُ غزيرةٌ في أرشيف صاحبنا هذا، و"عيّرته" في غير مسألة، وساقت ما يذكّر بغير أمر وأمر يتعلق بالعربية السعودية. وربما يجعل هذا الكلمات هذه هنا نافلةً، لكنها تجد مسوّغها في التفاتتها إلى مجيء السفير السعودي الأسبق في واشنطن على مفتي القدس الراحل، الحاج أمين الحسيني (1895 – 1974)، في غضون تعريضه بقيادات الفلسطينيين، عندما "ضيّعوا الفرص"، وراهنوا على الخاسرين، ثم تنكّروا لمن ساعدهم، على ما استرسل بندر في ثلاث ساعات تلفزيونية. ولقائلٍ أن يقول إن الغبطة الكبيرة التي أبدتها الصحافة الإسرائيلية، سيما الأقرب إلى اليمين الحاكم، بما أفضى به السفير ورجل الاستخبارات السعودي، تعفي الواحد منا من أي جهدٍ في الردِّ عليه، وقد بدا مركزيا في سعادة هذه الصحافة ببندر وصفها قوله إنه يلتقي تماما مع الدعاية الصهيونية، سيما في استهدافها زعاماتٍ فلسطينية، وفي المقدمة أمين الحسيني الذي قال عنه بندر إنه تحالف مع هتلر والنازية. والقولة هذه ذائعةٌ على ألسنة ساسة إسرائيل، وجاريةٌ في المعتقد السياسي والدعائي الصهيوني واحدةً من البديهيات، وقد ساقها نتنياهو في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 شاهدا على "إرهاب" الفلسطينيين.
ولمّا كان بندر ليس صاحب ثقافةٍ بالتاريخ (وغيره) يعتدٌّ بها، بدلالة أغلاطه في ساعات "العربية" الثلاث، فالراجح أنه تلقف تلك الشائعة عن "تحالفٍ" بين الحسيني وألمانيا النازية من نشراتٍ دعائيةٍ شائعة، وربما من مثقفين عرب أتوا على هذا الموضوع باستسهالٍ وخفّة، من دون اعتناءٍ واجب بالتدقيق اللازم فيه، وذلك كله اتكاءً على استقبال هتلر الزعيم الفلسطيني في برلين في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1941. وغريبٌ، في أي حالٍ وكل حال، أن يُؤاخَذ المفتي على "رهانه" على ألمانيا في مواجهة بريطانيا، وفي محاولته وقف نشاط الأخيرة من أجل إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". هل كان عليه أن يستجيب لضغوط ملوك العرب في تلك الغضون، ومنهم الملك عبد العزيز بن سعود، ويُماشي بريطانيا، ويصدّق وعودها، ويسايرهم في "رهانهم" عليها، فيما كان كذبها مؤكّدا؟ ومعلومٌ، تاليا، أن الملك عبد العزيز (وغيره) ناهضوا حكومة عموم فلسطين المعلنة بعد النكبة، وكان في أفهام النخبة الوطنية الفلسطينية آنذاك أنها قد تكون نواة كيانٍ فلسطيني. لقد طلب الحاج الحسيني من الزعيم الألماني عقد معاهدةٍ بين العرب وألمانيا ودول المحور، تؤكّد على مطالب العرب بالتحرّر، والسيادة، وإلغاء فكرة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين.. لم يستجب هتلر، ولم ينجح رهان المفتي، لكن الاجتهاد السياسي، في حينه وظروفه وسياقاته، يُحافظ على مشروعيته، بوصفه خيار المحشورين في زاوية بريطانية غادرة.. وأيا كانت زوايا قراءة ذلك المقطع الفلسطيني البعيد، فإن من "عبث الأقدار" أن يحكي عنه بندر بن سلطان، فيضطرّ الفلسطينيون إلى مخاصمته، وهم الذين كانوا يوما يساجلون رجالا من قماشة عبد الناصر وبورقيبة.