بن لادن في أميركا
قبيل "7 أكتوبر" بأيام، كنت برفقة صديق، له تاريخ طويل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتطرّق حديثنا إلى المجموعات الجهادية. أشار صديقي إلى غياب فلسطين عن أدبيات الجهاديين، غير أنني أشرت إليه إلى خطاب اسامة بن لادن الذي قال فيه إنه قرر تنفيذ هجمات 11 سبتمبر (2001) "حين رأى الأبراج تتهاوى في بيروت عام 1982". دهش صديقي، ومثله كثيرون ممن خبروا التجربة الفلسطينية في لبنان، من وجود مثل هذا التصريح.
تجد الفكرة ذاتها عن غياب فلسطين عن أدبيات الجهاديين، بكثرة، لدى المختصّين في الحركات الإسلامية في الغرب، لكنها فكرة تحتاج إلى إعادة تفكير، فكثير من أدبيات الجهاديين تتمحور حول تلك القضية، ولعلّ الانتشار الكبير، لـ"رسالة بن لادن إلى أميركا"، أخيرا، على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا على "تك توك" عبر شباب أميركيين، طابعهم يساري غربي (يختلف عن التوصيف اليساري - الاشتراكي التقليدي)، يقدّمون في فيديوهات قصيرة، تجربتهم، وشعورهم بالدهشة من قراءة الرسالة، لا بل بتأييد ما جاء فيها من تبرير بن لادن حربه مع الولايات المتحدة. يقول، في أحد الفيديوهات، إنه دُهش من الرسالة "لما فيها من وصف لحالة تفكيك الكولونيالية اليوم في ظل الهجمة الإسرائيلية في غزّة" (وهذا اقتباس من أحدهم). ودفع انتشار الرسالة بهذا الشكل الكبير، صحيفة الغارديان البريطانية، إلى إزالتها من موقعها (قد يكون تفسير هذا قانونيا، منذ تغيير القوانين البريطانية بشأن نشر مواد تفسر بأنها لمجموعات تصنف بريطانيا أنها إرهابية وهذا ليس موضوع هذا المقال).
مشهد تحسبُه مقطعا من فيلم أو مسرح عبثي، بعد أكثر من 20 عاماً من أقسى هجمات شهدتها الولايات المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية، وأودت بأكثر من ثلاثة الاف شخص، ودخلت واشنطن بسببها في حربين كبيرتين، يأتي جيل جديد، وبفعل الهجمات الإسرائيلية، ينظر إلى خطاب بن لادن، المسؤول الأول عن تلك الهجمات، رمزا لمواجهة الإمبريالية.
أن يتداول الشبّان رسالة بن لادن، ورغم دلالتها الكبيرة داخل الولايات المتحدة، وفي السياق الغربي، لا يعني انتشاراً للفكر الجهادي
لم تكد كلمة (أو خطاب) لبن لادن، تخلو، ومن متابعتي، من الإشارة إلى فلسطين، وهذا ليس جديدا، ولعل قسَمه الشهير، حين قسّم العالم، مثل الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، "بين فسطاطين"، أبلغ الأمثلة حين وعد بأن لا تحلم "أميركا ولا من يعيش فيها بالأمن قبل أن نعيشه واقعا في فلسطين وخروج القوات الأجنبية من جزيرة العرب"، وهذه الرسالة سابقة على الرسالة المتداولة حاليا، وتقسيم العالم بين "نحن وهم"، لقي انتشارا كبيرا بين أوساط مختلفة بين الشرق والغرب منذ 7 أكتوبر، وبدء الهجوم الدموي الإسرائيلي على قطاع غزّة.
ليست مواقف بن لادن جديدة، لكن موقف الشبان الأميركيين هو الجديد. وأيضاً، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يصعب التأكد من الأثر الحقيقي لمثل هذه المواقف، ويجب أن تُؤخذ بكثير من الانتباه للحملات المقصودة، والمدفوعة... إلخ، كما أن مواقف وسائل التواصل الاجتماعي، تعبّر، في أحيانٍ كثيرة، عن شحنات عاطفية تزول بمجرّد نشرها. ولذا لا يمكن اعتبار هذا تحوّلاً داخل المجتمع الأميركي.
ليس هذا التقارب، بين اليسار الراديكالي والجهاديين، جديداً، ففي فترة تراجع اليسار الثوري، وصعود الإسلاميين، نهاية السبعينات من القرن الماضي، وجد يساريون في الحركات الجهادية الصاعدة ذلك التعبير عن الأممية الثورية المسلحة، ولعل مديح بعض هؤلاء الثورة الإسلامية في إيران، أو تقارب اليساريين والإسلاميين في مواجهة نظام الرئيس المصري، آنذاك، حسني مبارك، أو نشيج مظفر النواب في النداء على جهيمان العتيبي، الذي احتل و"رفاقه" الحرم المكي بانتظار المهدي، أو مديحه لخالد الإسلامبولي، قاتل أنور السادات.
هاتان الأيديولوجيتان، لا تلتقيان. وبطبيعة الحال، كان ذلك التقارب الفكري محكوماً عليه بالآنية، والافتراق، لا بل والعداء، لكن هذا التلاقي، اليوم، يأتي في سياق مختلف عن نهاية السبعينيات. يأتي في انتشار منهج تفكيك الكولونيالية من أكثر المناهج الدراسية انتشاراً في الجامعات الغربية، بمعنى بين أوساط الشبان في حياتهم الجامعية، وهذا ما يفسّر الفئات العمرية المحدّدة التي تداولت رسالة بن لادن على صفحات التواصل، وهذا ما يفسّر أيضاً قراءة سياقات الرسالة، وحتى سياقات هجمات 11 سبتمبر (2011)، فالجيل الجديد من هؤلاء لم يعشها ولم يختبر الضغط المصاحب آنذاك على الجميع، لكنهم اليوم يبحثون عن واقع عملي - حركي، لمواجهة الامبريالية، ومنهم من اعتقد في الرسالة ذلك الواقع، وإن كان مفصولاً ومقتطعاً عن سياقاته. هذا يعبّر عن المأزق العالمي في تراجع الأيديولوجيات لصالح الهوية، أو الانفتاح الاقتصادي، أو غيرها من الفرضيات المتداولة.
هل تصبّ العمليات الإسرائيلية الدموية في غزّة في مصلحة إنعاش الأيديولوجيا الجهادية، بعد تراجعها وهزيمتها في الموصل والرقّة؟
ويثير هذا السؤال، المكرّر دوماً، عما إذا كانت العمليات الإسرائيلية الدموية في غزّة تصبّ في مصلحة إنعاش الأيديولوجيا الجهادية، بعد تراجعها وهزيمتها على جنبات البلدتين القديمتين في الموصل والرقّة؟ أن يتداول الشبّان رسالة بن لادن، ورغم دلالتها الكبيرة داخل الولايات المتحدة، وفي السياق الغربي، لا يعني انتشاراً للفكر الجهادي. ولكن في سياق منطقتنا، من الضروري الإشارة إلى تأثير الاحداث الكبرى، مثل الحرب على قطاع غزّة، وحتى قبلها، مثلا، نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وجد كثيرون (ومنهم أعضاء في إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب) في التظاهرات الصغيرة التي خرجت اعتراضا على النقل، تأكيداً على عدم اكتراث الشبان، وتراجع القضية الفلسطينية، لكن مثل هذه العوامل تلعب تأثيرا بطيئاً في بحث المُحبطين عن إيديولوجية تجيب عن حيرتهم وغضبهم. وبالتالي، تلقى تفسيراتُ الجهاديين المباشرة، والحاسمة، آذاناً صاغيةً لدى هؤلاء.
ويرتبط هذا، في أحيانٍ كثيرة، بغياب الأفق السياسي، والحلول للأزمات. وبالتالي، تقدّم حرب غزّة الوصفة المثالية لتلك الأيديولوجيا. وطبعا، تصبّ الدعاية الإسرائيلية في "دعشنة حماس" في هذه الخانة أيضاً، عبر نزع الخطوط الفاصلة بين الجماعات الإسلامية. كما أن شعارات تقسيم العالم بين "هم ونحن"، وإن كان من الوصفات الجاذبة للجهاديين، تراجعت أمام تزايد التعاطف مع الفلسطينيين من فئاتٍ مختلفة في الغرب، الذي يضرب فكرة هذا التقسيم. كما أن "وصفة عودة الجهاديين" تحتاج إلى شروط أساسية، أهمّها وجود شبكات تساهم في التجنيد، والدعم اللوجستي، وهذا على المستوى الحركي. وتلك الشبكات تم ضربها أو اختراقها في السنوات الأخيرة، ما يجعل عودة الجهاديين مشروطة بالظروف التي يمكن أن تختمر ببطء. ولا يعني هذا، بأيّ شكل، أن تلك الظروف لا تتهيأ، لكنها لن تتشكّل في أوساط اليساريين الغربين الشبان، غير المدركين تلك السياقات، ولكن في منطقتنا، بينما، كثيرون منها، لا يدركونها ايضاً، كما هو حال صديقي، ابن المنطقة.