بوتين والعيش على الأزمات
أيام قليلة ويخرج علينا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مزهوّاً بنفسه بعد نيله ولاية رئاسية جديدة تتيح له البقاء في السلطة ست سنوات جديدة، وتحقيق رقم قياسي يضاف إلى سجله "أطول زعيم يحكم روسيا منذ الإمبراطورة كاثرين الثانية في القرن الثامن عشر".
عملياً، لا منافسين لبوتين في هذا الاستحقاق. تجريف الحياة السياسية والقضاء على المعارضين، اغتيالاً أو سجناً أو دفعاً نحو المنفى هرباً من البطش، لم يكن وليد السنوات القليلة الماضية، بل هو نهج اختطّه لنفسه منذ وصل للمرة الأولى إلى السلطة قبل نحو ربع قرن، لكنه يعلو وينخفض تبعاً لحجم الخطر والتهديد الذي يشعُر به.
اعتمد بوتين على مقاربةٍ مفادها بأن ما تبقّى من تركة الاتحاد السوفييتي، بما تغرق فيه من أزمات أمنية وسياسية أو اقتصادية، لا يمكن أن تُدار إلا بالبطش والترهيب والهروب إلى الأمام عبر افتعال أزماتٍ، لكن بشرط إمكانية التحكّم بها. وطوال السنوات الماضية، كان لا صوت يعلو على صوته، سواء من دائرته القريبة أو أي أطرافٍ أخرى. وحتى عندما لجأ إلى مناورة المداورة بين منصبي الرئيس ورئيس الوزراء، مستعيناً بديمتري ميدفيديف، لضمان العودة إلى الكرملين، اختار الأكثر طاعة وضعفاً لأنه لا يأتمن أحداً.
عاش بوتين قرابة ربع قرن من وجوده في السلطة على الأزمات، سواء تفجّرت في وجهه أو فجّرها بنفسه، لا سيما في العقد الأخير، واحتلت أوكرانيا بطبيعة الحال حصّة الأسد فيها، ففي مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، احتل بوتين شبه جزيرة القرم، وأعلن ضمّها إلى روسيا ليبدأ مساراً من التوتر في علاقاته مع الغرب، حضرت فيه عناوين عدّة منها العقوبات التي إن أثرت على روسيا إلا أنها لم تضعفها إلى الحد الذي يجعلها تتراجع خطوة إلى الوراء. بل على العكس، بعد التدخّل العسكري المباشر في سورية عام 2015، بلغ التمادي حدّ غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، لتغرق موسكو في حرب استنزاف. وليس مصادفة أن الانتخابات الروسية تُجرى هذه المرّة تحت وطأة الأزمة الأوكرانية بشكلٍ أساسي.
بالعودة إلى الخطاب الذي ألقاه يوم الغزو لتبريره، والتصوّرات التي وضعت عن "نزهة" سريعة ستنتهي برضوخ أوكرانيا والتأسيس لمرحلة جديدة من النفوذ، يتبيّن أنه لم يتحقّق منها عملياً الكثير. فمهمة الأسابيع دخلت في عامها الثالث، وكشفت الكثير من عيوب النظام الروسي ونقاط ضعفه وهشاشته سياسياً، هذا فضلاً عن وصول علاقته بالغرب إلى أسوأ مراحلها.
أظهرت تداعيات الحرب عدم جاهزيّة الجيش الروسي لحروب حديثة، وحاجته إلى تطوير كبير، رغم أنه كان قد استخدم الميدان السوري حقل تجارب لأسلحته منذ أواخر عام 2015. وهو ما اضطرّ بوتين إلى الاعتماد على مجموعة المرتزقة فاغنر التي كانت ذراعه لتوسيع النفوذ العسكري في دول عدّة، لكن السحر انقلب على الساحر، بعدما تمرّد زعيمها، يفغيني بريغوجين، على الجيش، بذريعة اتهامه بالفشل في الحرب الأوكرانية. لم يلتقط بوتين يومها الرسالة جيداً قبل أن يجد نفسه أمام أقسى أيام حكمه وأكثرها إذلالاً وتهديداً لصورته، عندما انتقل تمرّد المرتزقة في غضون ساعاتٍ من جنوب روسيا إلى التقدّم باتجاه العاصمة، ليظهر حجم الضعف الذي وصل إليه بوتين، حتى يتجرّأ عليه أحد من دائرته على هذا النحو. وإن كانت "تسوية" مؤقّتة نجحت في وقف التمرّد فإن بريغوجين كان قد كتب نهايته بيده، وهو ما تحقق بالفعل بعد شهرين، عندما قضى في حادث تحطّم طائرته ليتفرّغ لإعادة ترتيب البيت الداخلي قبل الاستحقاق الرئاسي.
وإذا كانت نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية محسومة سلفاً، وتركيز الكرملين ينصبّ على نسبة التأييد التي سينالها بوتين، فإن الأهم كيف سيوظّفها في السنوات المقبلة، وأي أزمات يمكن أن يفجّر هذه المرّة.