بوتين و"لعبة الدجاجة النووية"
"لعبة الدجاجة النووية" تعبير شائع في الأدب السياسي العام، وهي تُعرّف أيضاً بـ"سياسة حافة الهاوية"، وبأنها لعبة سياسية يدفع فيها أحد الطرفين المتنازعين أو كلاهما التفاعل بينهما إلى عتبة المواجهة من أجل الحصول على موقع تفاوضي أفضل بالقياس إلى الطرف الآخر، وهي لعبةٌ تأتي في المطاف الأخير، بعد أن تفشل كل محاولات الضغط من الدولة المصعِّدة، وفيها يكون القيام بكل عمل ممكن لدفع الخصم إلى الاعتقاد أنّ الطرف الآخر سيلجأ إلى القوة الشاملة بصورة شبه مؤكّدة إذا لم يوافَق على تحقيق مطالبه السياسية أو الأمنية – العسكرية، أي دفع الأمور إلى الحد الذي ينذر بالانفجار، ما قد يُغيّر في أنسقة التفكير السياسي في التعامل مع المشكلة أو القضية أصل النزاع.
حسب الموسوعة البريطانية، تتميز "لعبة الدجاجة النووية" بخياراتٍ تتسم بالجرأة والمخاطرة، لكونها تحذّر من وقوع كارثة محتملة، وتستند إلى الاعتقاد أن الخصم في موقف أضعف من أن يُغامر بالمواجهة. وبالتالي، لا خيار أمامه سوى التراجع وقبول شروط إنهاء الأزمة، فهي، كما يقول توماس شيلينغ في كتابه "استراتيجية الصراع"، منحدرٌ يمكن المرءَ أن يقف عليه مع بعض مخاطر الانزلاق، بحيث يصبح المنحدر أكثر حدّة، وخطر الانزلاق أكبر كلّما تحرّك المرء نحو الهوّة.
يُدرك بوتين أن الحروب الخاسرة في روسيا أعقبتها أزمات وطنية حادّة، كانت مصحوبة غالباً بتغييرات داخلية في النظام
ما يدعو إلى استحضار هذا التعريف المقتضب، تلويح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكثر من مرّة بأسلحة الدمار الشامل، بعد التقهقر الواضح لقواته وفشلها في تحقيق الأهداف التي كانت مرسومةً عند بدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير/ شباط الماضي، حيث بات من الواضح أنّ بوتين، من خلال هذا التلويح، يحاول إثارة تصور بأن هزيمة روسيا في أوكرانيا يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة. وبالتالي، يأتي هذا التلويح المتكرّر واحدةً من أدوات "لعبة الدجاجة النووية" لممارسة أقصى قدر من الضغوط على أوكرانيا وعلى الدول الغربية المساندة لها، لدفعها إلى الرضوخ لشروطه التي حدّدها قبل بدء عملية الغزو.
حسب قراءاتٍ سياسيةٍ عديدة، وفي ظل استمرار تقهقر القوات الروسية في أوكرانيا، المقترن باستمرار الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، قد يجد بوتين نفسه مضطرّاً إلى استخدام الأسلحة النووية كأحد الخيارات المطروحة، خصوصاً إذا ما شعر بأن هناك خطراً وجودياً يتهدّد نظامه ودولته. ويمكن أن يتأتي هذا الخطر من احتمالين: الأول استمرار تقهقر القوات الروسية في أوكرانيا إلى درجةٍ يجعل من القوات العسكرية الأوكرانية تشكل خطراً على الأراضي الروسية وعلى الداخل الروسي. وقد يدفع هذا الأمر بوتين إلى اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية وفقاً للعقيدة النووية الروسية التي جرى تعديلها في يونيو/ حزيران 2020، والتي أكّدت أنه يمكن استخدام السلاح النووي الروسي في ضربة استباقية في حالات عدّة منها في حالة استهداف الأراضي الروسية بأسلحة تقليدية تهدّد وجود الدولة، فالانتقال من الحرب التقليدية إلى النووية، يبقى خياراً مطروحاً باعتباره جزءاً من العقيدة العسكرية الروسية، التي تستند إلى امتلاك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم.
"لعبة الدجاج النووية" جادّة ومختلفة، لا شروط ولا سقوف ولا قواعد لها
في إطار هذا الاحتمال، يرى محللون أنّ تقهقر القوات الروسية في أوكرانيا لن يُعرّض الأراضي الروسية للخطر بشكلٍ مباشرٍ، إلا أنه سيُعرّض حكم بوتين للسقوط، لأنه رهين هيبته بالنصر، خصوصاً أن بوتين يُدرك أن الحروب الخاسرة في روسيا أعقبتها أزمات وطنية حادّة، كانت مصحوبة غالباً بتغييرات داخلية في النظام، وهذا ما لا يتمنّاه بوتين ويحاول تجنّبه، فهو في غير وارد خسارة الحرب في أوكرانيا، حتى لو اضطرّه الأمر إلى استخدام الأسلحة النووية لضمان بقائه واستمرار نظامه. ويبقى هذا الاحتمال قوياً، وخصوصاً مع استمرار الولايات المتحدة والدول الغربية بإمداد الجيش الأوكراني بالأسلحة المتطوّرة، الذي استطاع، في الفترة الماضية، قلب المعركة لمصلحته وتمكّن من تحرير خيرسون الاستراتيجية، ومن قبلها خاركيف وليمان وغيرهما.
الاحتمال الثاني اندلاع قتال مباشر بين القوات الروسية ونظيرتها الأميركية على الأراضي الأوكرانية، إلا أنّ هذا الاحتمال ضئيل، بسبب سياسة ضبط النفس المتبادل من الجانبين، التي جنّبت الطرفين الاحتكاك المباشر طوال العقود الماضية، على الرغم من حدوث تدخلات عسكرية دعم فيها كل طرفٍ خصم الطرف الآخر. وبالتالي، باتت "لعبة الدجاجة النووية" أحد أهم خيارات الرئيس الروسي للخروج من عنق الزجاجة في حربه على أوكرانيا. فالسلاح النووي هو الورقة التالية التي يهدّد بها في حال تمكُّن كييف فعلاً من إلحاق هزائم كبيرة بالجيش الروسي، وتشكيل خطر على الأراضي الداخلية الروسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا عام 2014، وتعتبرها جزءاً أساسياً من أراضيها.
في خلاصة ما سبق، يمكن القول: صحيح أنّ "لعبة الدجاج النووية" لعبة، ولكنها لعبة جادّة ومختلفة عن كل الألعاب، لا شروط ولا سقوف ولا قواعد لها، وإذا فلتت فقد تحرق دولة، وقد تحرق منطقة، وقد تحرق العالم، فقد أثبتت التجارب أنّه عندما تضيق الخيارات، تتّسع احتمالات ارتكاب الخطأ في القرارات السياسية. لهذا يبقى التساؤل الأهم: هل يرتكب بوتين هذا الخطأ ويجرّ العالم إلى ما بعد حافة الهاوية؟ أم أنّ العقلانية السياسية قد تدفع الأطراف إلى حل القضية بالطريقة نفسها التي انتهت بها أزمة الصواريخ الكوبية؟