بيت ربيعة ريحان
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
وأنا أقرأ رواية "بيتنا الكبير" للقاصة والروائية المغربية ربيعة ريحان (دار العين، القاهرة، 2022)، تداعى إلى ذهني ما يمكن تسميتها كتب السلالات، وضمنها روايات ومذكّرات ودفاتر منسية، على سبيل المثال ثلاثية نجيب محفوظ وكتاب "مذكرات أميرة عربية" الذي كتب في بدايات القرن التاسع عشر، لسالمة بنت السيد سعيد بن سلطان. وهناك كذلك رواية السلالة الفنتازية "مائة عام من العزلة" لماركيز. ولأن لكل عملٍ، في هذا السياق السلالي، طعمه الخاص وعالمه المتفرّد به، فقد جاءت "بيتنا الكبير" ممتعة وسلسة في تدفّق عوالمها، تستلم فيها زمام السرد "فريدة" التي كأنما تقوم بدور شهرزاد، ولكنها واصفة هذه المرّة أكثر منها حكّاءة. حيث يطلعنا الوصف على جوانب من ذاكرة المغرب، بداية من أسلاف القبيلة التي ينتمي إليها كبور "الذين جاؤوا فاتحين من اليمن"، ثم تعرُج بنا إلى مجاعات الثلاثينيات في المغرب، حين كان يتم البحث عن القوت حتى في جوف روث الدواب، ثم حقبة الاستعمار وتلك الصور الملهمة للمقاومة الوطنية التي كان أحد جنودها المجهولين الجد كبور بطل "بيتنا الكبير" ومحورها.
وتطلع الرواية بوصف تفصيلي لترويض الإنسان الطبيعة، يعيش من خلاله القارئ مع سجل موزّع في ربوع الرواية لمختلف مفردات الطبيعة ومكوّناتها من ثمار وأشجار وزروع ومياه وحيوان، هي محيط الجد كبور الذي استثمره بعد هروبه من قريته "الجذور"، نتيجة طبعه وجبلته التي لا تقبل أن ترى فقيرا يُهان أمامه من جابي أموالٍ يدور بين القرى. هرب كبور بعد أن ضرب الجابي ضربا مبرّحا، ولتأكّده من أن فعلته لا يمكن التهاون فيها من السلطات قرّر الفرار. فرأى نفسه مشرّدا وحيدا في القفار، لكنه لم يستسلم للهلاك، بل استجاب لقدرِه الذي لم يكن يدرك أنه كان يخبئ له مفاجأة ثرية متنوّعة بشرا وخيرا تنبثق من لا شيء، فبنى عالما جديدا معتمدا على "صلبه" في كل شيء. نتج عن ذلك الجهد الجبّار بناء بلدة كاملة بزرعها وبشرها ودوابّها على هضبة مستوية تطلّ على واد جار، ابتدأ مأواه بغرفةٍ ثم سوّر أرضا حولها، ثم زفت إليه زوجته الأولى التي أردفها بضرّات أخريات ثلاث، حتى تكوّنت أسرة عريضة ملأت هذه القرية البكر بشرا وشجرا وحياة.
انطلاقا من الجد الذي يشكل إطار الحكي وبؤرته، تتمدّد الرواية في تناول حياة معظم المحيطين به من أبناء وأحفاد، بعضُهم مقرّب والآخر مشاكس وآخرون يحضّون بعناية وتركيز الجد من دون السماح لأحد من آبائهم بالتدخل والاحتجاج، ما يدلّ على القوة الفولاذية لشخصية كبور الذي يتصرّف كحاكم لا يجب أن تفوته أية صغيرة في ربوع مملكته.
أعود هنا لتذكّر (من غير مقارنة) كتاب "مذكّرات أميرة عربية"، حيث انتزع الحب سالمة من مكان طفولتها الأول، لتعيش معاناة الحنين في ألمانيا لبيتها الكبير في زنجبار وشخصية الأب السلطان العطوف والحريص على معرفة أدقّ المعضلات والوقوف شخصيا على حلها. فريدة كذلك ساردة رواية "بيتنا الكبير" تُنتزع في طفولتها من بيتهم الكبير، بغرض أن تعيش في المدينة في كنف زوجة أبٍ ترعاها وتحرص عليها (على نقيض المشاع عن زوجة الأب). وبرفقة الجد. لذلك، البيت الكبير هنا ليس فقط الجد كبور، إنما أيضا الفضاء بكل تفاصيله. لذلك أحسنت الكاتبة اختيار العنوان ليخدم هذا الغرض. واصفة بحيادٍ وفنّية تفاصيل الحياة من حول الجد كبور ونوازعه ونزواته العاطفية، خصوصا في حالات الغضب والحب والعطف على الأحفاد الذي يصل أحيانا إلى حدود المبالغة. إلى جانب كرمه النادر تجاه ما يؤمن به من قضايا، تحديدا القضايا الوطنية التي أجزل في سبيلها العطاء في السر، من دون أن ينشد من ذلك مجدا مزيفا.
يتمدّد تأثير الجد كبور في صفحات رواية ربيعة ريحان، وإنْ يبهت حضوره مع تقدّمها، ليحتلّ "الساحة" القادمون من صلبه والمتوارثون صفاته، من أعمام الساردة "فريدة" الذين يتمدّدون في المدن، بعد أن تركوا قريتهم التي أسّسها الجد، وهي قرية حقيقية معيّنة ومحدّدة. عادت البطلة لرؤيتها ووجدتها على غير الشكل الذي تركتها فيها، وذلك النهر النشط "واد تانسيفت" الذي كان يحدّد تدفق الحياة وأبعادها في زمن الجد كبور استحال شيئا آخر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية