بين "الأردن الممكن" و"الأردن المرعب"
أقتبس عنوان كتاب الصديق إبراهيم غرايبة في محاولة لاستنطاق تداعيات "أزمة الأمير حمزة" التي شغلت، وما تزال، الشارع الأردني، وتهيمن على أحاديث الغالبية العظمى وتتصدر اهتماماتهم. ولعلّ المدخل الرئيس لهذا المقال هو الحفر بصورة أعمق في دلالات الأزمة وأسبابها، وما يمكن أن يترتب عليها خلال المرحلة المقبلة؟
إذا كانت هنالك ملامح رئيسية يمكن المرور عليها كرؤوس أقلام (أشار إليها مقال كاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، هل أتاكم ماذا يصنع الفراغ"، 11/4/2021) فهي: انهيار مصداقية الرواية الرسمية في أغلب المجالات، انهيار سمعة النخبة السياسية والفراغ المترتب على "غياب رجال الدولة"، تراجع أكبر في المكانة السياسية للحكومات وغيابها عن الأحداث الكبرى، عجز المنظومة السياسية عن بناء ديناميكياتٍ فعّالة في العلاقة مع المجتمع، شرخ الثقة المرعب بين الدولة والشارع .. إلخ.
المفارقة أنّ هذه الأزمة جاءت في ذروة احتفال المملكة في مئويتها الأولى، والاستعداد لولوج الثانية؛ وتخطيط "مطبخ القرار" لبناء سردياتٍ للمئوية الأولى وسرديات للمئوية الجديدة تجمع الشباب الأردني، وتبلور رؤيتهم الوطنية للمرحلة المقبلة، لتكون المفاجأة أنّ سردية الدولة وقعت في أزمة مؤقتة، فكيف لها أن تبني سرديةً طويلة المدى استراتيجية مقنعة؟
غابت الحكومة الحالية عن الأزمة، كما غابت حكوماتٌ سابقةٌ عن أزمات حيوية ورئيسية
ربّ ضارّة نافعة، والحكيم هو من يستفيد من الدروس، ويتعلّم من أخطائه، ويُحسن القراءة؛ لا أقصد الكتب، بل الأحداث أيضاً والتحولات والتغيرات، ولعلّ وقوع هذه الأزمة، بما حملته من استقطابات داخلية شديدة واهتزازات وجدانية على مختلف المستويات، يمنح "مطبخ القرار" فرصة للتفكير بـ"عقل بارد" في استثمار العبرة للبناء عليها والخروج من المكابرة في معالجة الأزمات العميقة. والعبرة الرئيسية تتمثّل في ضرورة العودة إلى الوراء قليلاً لطرح السؤال الأساسي: أين أخطأنا؟ ولا أقصد في الأزمة التي استجدت أخيرا، بل في المسارات والسياسات العامة والتوجّهات؟ وكيف نعيد تعريف النموذج الأردني وخصائصه؟ وما هي الأولويات الرئيسية للإصلاح العام في المرحلة المقبلة؟ وكيف نعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا ولنظامنا ومجتمعنا؟ وما هي سمات النظام السياسي الأردني التي نريد تعزيزها في المرحلة المقبلة؟ كيف نرسّم القيم الوطنية والأخلاقية والثقافة الوطنية ونعمل على تطويرها وتجذيرها وتعليمها وتنشئة الأجيال القادمة إليها؟
ممكن توضيح أهمية هذا الموضوع من خلال أمثلة قليلة (قبل الخلاصات)؛ غابت الحكومة الحالية عن الأزمة، كما غابت حكوماتٌ سابقةٌ عن أزمات حيوية ورئيسية، وسادت في أوساط القرار نظرية خطيرة، تتمثل باختزال دور رئيس الوزراء على الجوانب التكنوقراطية والاقتصادية والفنية، وإبعاده عن ملف السياسة الداخلية، ما جعل رئيس الوزراء طرفاً من بين أطراف في صناعة السياسات الداخلية المهمة، وفي أحيان يكون الرئيس طرفاً ضعيفاً أيضاً. والسؤال هنا، هل هذه الصيغة السياسية التي تستدخل الملك في العمل التفصيلي والتنفيذي، وترفع عنه جدران الحصانة، هل هي التي نريدها في المئوية الجديدة؟ وهل هي التي تخدم فكرة دولة المؤسسات السياسية القوية؟ وهل تسير بنا نحو تعزيز ملكية دستورية واضحة المعالم، تسهّل على جميع الأطراف القيام بمهمات مؤطرة دستورياً وقانونياً، أم العكس تترك المعادلة السياسية وقواعد اللعبة في حالة من الضبابية والهلامية وتداخل الأدوار وتشعبها؟!
بعض قيادات الجيش سابقاً ورؤساء وزراء ووزراء، اتهموا بالفساد وآخرون تمّت شيطنتهم إعلامياً، وبعضهم بعد أن اتهموا وشُهّر بهم أعواما خرجوا بلا إدانة
رأينا كيف تمّ التعامل الإعلامي (الداخلي) مع باسم عوض الله، وهو رئيس الديوان الملكي سابقاً، ومدير مكتب الملك، وشغل مواقع مهمة وحيوية وكان في قلب مطبخ القرار، وبمثابة الرجل الثاني في النظام أعواما طويلة، وحتى بعد خروجه بقي مقرّباً من القصر، حتى وقت قريب جداً، ثم يتهم بتهم خطيرة، وقبله شخصياتٌ استلمت مواقع خطيرة وعلى درجة عالية من الحساسية، وكانت تحكم وترسم في مصير البلاد والعباد، كمديري المخابرات (أغلبهم خرج بطريقة مخجلة؛ في العشرين عاما الماضية من سميح البطيخي مروراً بمحمد الذهبي خصم عوض الله اللدود، وهو في السجن حالياً بتهمة الفساد، وصولاً إلى عدنان الجندي الذي أقيل بعد اتهام مجموعة ضباط لديه برسالة ملكية بأدوار خطيرة ومشبوهة)، وبعض قيادات الجيش سابقاً ورؤساء وزراء ووزراء، اتهموا بالفساد وآخرون تمّت شيطنتهم إعلامياً، وبعضهم بعد أن اتهموا وشُهّر بهم أعواما خرجوا بلا إدانة، ولم يخرج من تلك الحالة حتى رئيس مجلس النواب السابق، عاطف الطراونة، وعائلته، إذ دخلوا في مسارات قضائية مرتبطة بالفساد، بعدما كانوا في ذروة القوة السياسية والاقتصادية.
السؤال المترتب على ما سبق؛ هل هذا أمر طبيعي وصحّي؟ أم يشير إلى اختلال كبير في عملية تصعيد النخب على رأس المؤسسات الحيوية والرئيسية والمهمة؟ وفي آليات الرقابة؟ وفي ترسيم العمل المؤسسي الصحي الذي يساعد على بناء منظومة دقيقة ومحترمة حتى لا يصبح مصير كل رجل دولة في المرحلة المقبلة محفوفاً بالشيطنة والإهانة والاتهام، وكأنّ ذلك أصبح نتيجة طبيعية؟! ماذا يمكن أن نفعل لنتجنب ذلك؟
أي كلفة أكبر على الدولة وعلى القيم الوطنية والأخلاقية، كلفة التعدّدية وحرية التعبير والرأي، أم كلفة القمع والتشويه والشيطنة؟
مثال آخر عن حالة الاستقطاب الشديد في المجتمع والشارع في "أزمة الأمير حمزة"؛ وانتشار ثقافة "الزعرنة الإعلامية"، بمعنى تبادل التهم الخطيرة والشيطنة المتبادلة ليس فقط بين الإعلاميين في هذا الطرف أو ذاك، بل حتى في أوساط الشارع نفسه، وقد شعرت بالرعب الشديد، وأنا أقرأ التعليقات المسكونة بالعقلية الأحادية التخوينية؟ والسؤال: هل مثل هذه اللغة تليق بالدولة والمجتمع؟ وهل هذه الحال أفضل وأضمن، وتمثّل النموذج الأردني الذي نطمح إليه، وكلفتها أقل من كلفة الإصلاح السياسي الذي يستدخل المعارضة الوطنية المعتدلة، ويطور الإعلام، ويسمح بأصوات إعلامية تمتلك مصداقية وسمعة جيدة، وتملك المهارات والرواية لتدافع عن الدولة؟ أي كلفة أكبر على الدولة وعلى القيم الوطنية والأخلاقية، كلفة التعدّدية وحرية التعبير والرأي، أم كلفة القمع والتشويه والشيطنة؟ وأي مسار نريد أن نمضي إليه؟
نعود إلى الخلاصات بعد الأمثلة السابقة، وإلى عنوان المقال، ونتساءل: ما هو الأردن الممكن، أي الذي نستطيع أن نحققه ونصل إليه؟ وما هو "الأردن المرعب" الذي نريد أن نبتعد عنه ونخشى منه؟ ألم يأن الأوان أن نقرأ المسارات بصورة أكثر دقة وموضوعية ووطنية؟