بين سفراء السودان وجنرالاته
(1)
ثمّة جنرال قرّر عزل سفراء لبلاده، قبل أن يُبادر بتشكيل حكومته الانقلابية .. !
فعلها جنرال السودان، حين انقلب على شركائه من المدنيين في الفترة الانتقالية، فغضب من بعض سفراء بلاده ودبلوماسييها في الخارج الذين لم يساندوا انقلابه العسكري، وهو انقلابٌ قيد التخلّق، لم تكتمل أركانه بعد، ولا وضحت ألوانه حمراء أو بيضاء أو سوداء. ولعلّ كثيرين قد دُهشوا من غضبة الجنرال المُضرية على سفراء بلاده، حتى قبل أن يعطي انقلابه صفة، أو يضع لنفسه توصيفاً، إن كان سـينصّب نفسه رئيساً لمجلسٍ انقلابي، أو رئيساً واحداً أحداً لا شريك معه، فيعرف السودانيون أنَّ ديكتاتوراً قادماً إليهم ليأتمروا بأمره، سيّداً مطاعاً.
لربّما يعجب أيضاً من يرى أن أسبقيات الرّجل قد اختلطت عليه، ولم يجد حوله من ينصح: أنَّ عزل سفراء بلاده في الخارج لا ينبغي أن يصدر عن انفعال، بل ذلك أمر يتركه الحكماء والملوك والرؤساء الراشدون، وبعد أن يتوطّد سلطانهم، لوزارة الدبلوماسية، وفق تقاليد مرعيّة راسـخة.
(2)
لقد رسَـخت الممارسات الدبلوماسية بصورة رسمية، مهامَّ ووظائف وضوابط، منذ سنوات القرنين، السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وما قبل ذلك، إذ ارتضت البلدان عليها بعد ذلك في فيينا عام 1815. ابتدر العالم، وبعد انقضاء سنوات الحرب العالمية الثانية في عام 1945، أول تأطير قانوني كامل الملامح، توافقت عليه الدّول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وعني بالوظائف الدبلوماسية، ضوابطها وأساليب أداء مهامها، وما يقتضي ذلك من ترتيباتٍ لتيسير عمل المبعوثين الدبلوماسيين في البلدان الأجنبية وضمانات حمايتهم. حوتْ اتفاقيتا فيينا الأولى للعلاقات الدبلوماسية (1961)، والثانية للعلاقات القنصلية (1963)، ذلك كله، بما شمل أسلوب تعيين السفراء والدبلوماسيين للتمثيل بين الدول، وتحديد معايير اختيار المبعوثين عموماً، وضوابط أداء مهامهم، وما يمنح لهم من امتيازات وحصانات تيسّر إقامتهم لتمثيل بلادهم في الدولة التي يوفدون إليها، وأيضاً تفصيل ترتيبات إنهاء مهام السّفراء والدبلوماسيين.
الإجراء الذي اتخذه جنرال الخرطوم لم يسبقه عليه جنرال انقلابي آخر في كامل الإقليم
(3)
ثم نأتي للحديث عمّا أقدم عليه جنـرال الخرطوم من إعفاء سفراء بلاده في البلدان الأجنبية، عبر أجهزة الإعلام المحلية، والذي عكس ضيقاً وقلة صبرٍ على سفراء، ربّما فكّر بعضهم في اتخاذ قراراتٍ شخصيةٍ بإدانة الانقلاب العسكري، ومن ثمّ إنهاء مهامهم الدبلوماسية بمحض إرادتهم، إلّا أنّ الجنرال بدا في عجلةٍ من أمره، فسارع بإعفاء سفراء للبلاد في الخارج، قبل أن يُثبّت أقدامه، حاكماً يعفي أو يُعيّن حكومة تنفيذية تتولّى إدارة علاقات البلاد الخارجية، بما يشمل بعد ذلك، إن أراد، تعيين سفراء في الخارج أو في الداخل أو إعفاء سفراء. هكذا، فإنّ الإجراء الذي اتخذه جنرال الخرطوم لم يسبقه عليه جنرال انقلابي آخر في كامل الإقليم، ومعلومٌ أن انقلابات السودان تحصى وتعد، لكن إعفاء الجنرال أولئك السفراء بدعةٌ يجدر رصدها في موسوعة غينيس. السّـفراء الذين أصدر قرار إعفائهم قائد الجيش قد اعتمد بعضهم رأس مجلس الدولة، وهو نفسه، للمفارقة، رئيسه وقائد الجيش الذي قاد انقلاباً عسكرياً بصفته العسكرية، وليس بأيّ صفة أخرى. وما قد فات على مستشاريه، إنْ كان منهم راشد ينصح، أنّ في إعلان قرار الإعفاء تجاوزاً للظروف السياسية المأزومة في الداخل والخارج، بل فيه ما ينطوي على استخفافٍ بالدّول التي اعتمدت أولئك السفراء السودانيين، وأعفاهم جنرال الخرطوم بعين مغمضة.
دول كثيرة لا تقبل مثل هذه التصرّفات التي تعلن في أجهزة الإعلام إعفاء سفير، قبل إخطارٍ مسبقٍ يتم بالطرق الدبلوماسية
(4)
في الظروف العادية، بل وحتى في الظروف الاستثنائية، وبعيداً عن أيّ انفعال مجاني، يتحتم على الدولة التي أوفدت ذلك السّـفير، ثم رأتْ استدعاءه بمبرّرات تخصّها، أن تبلغ الدولة التي قبلتْ ذلك السّـفير واعتمدته بنيتها إنهاء مهمته. يرتب عادة إخراج مثل ذلك القرار عبر ترتيباتٍ دبلوماسيةٍ تعدّ فيها مكاتبات رسمية وتقليدية راسخة ومعروفة. دول كثيرة من التي تتقيّد بالأصول الدبلوماسية التي تضمّنتها الاتفاقيات الدولية سالفة الذكر لا تقبل مثل هذه التصرّفات التي تعلن في أجهزة الإعلام إعفاء سفير، قبل إخطارٍ مسبقٍ يتم بالطرق الدبلوماسية، وترى فيها استخفافاً بضوابط العمل الدبلوماسي المرعية على المستوى الدولي. يتمّ إنهاء مهمّة المبعوث الدبلوماسي وفق المادة التاسعة من اتفاقية فيينا لعام 1961، إذا أبدت الدولة المعتمد لديها عدم قبوله مبعوثاً عندها، فعليها أن تعلن أنّ ذلك المبعوث "شخصاً غير مرغوب فيه"، وتطلب منه إذّاك المغادرة في خلال فترة تحدّدها تلك الدولة وفق تقديرها للظروف التي صاحبت ذلك القرار. والحالة الثانية تقع عند إكمال السفير أو المبعوث الدبلوماسي مهمته، فتنص المادة 43 من اتفاقية فيينا أن تبلغ وزارة الخارجية التي ابتعثت ذلك السفير وزارة خارجية الدولة التي اعتمدته سفيراً لديها، بانقضاء أجل مهمته. في حالة إعفاء ذلك الجنرال سفراء بلاده عبر أجهزة الإعلام، بما يمثل إعلانه أنهم "أشخاص غير مرغوب فيهم"، سيتم تصنيفه بدعة دبلوماسية، محلها موسوعات غرائب الظواهر كما أشرنا، مثلما تمثل اختلالاً في سلم أسبقيات ذلك الجنرال الذي أبدع سلبياً، فاعتقل الوزراء وارتبكت أولوياته، فأعفى السفراء من دون تروٍّ.
ما أقدم عليه الجنرال منفرداً بحلّ أجهزة الدولة التنفيذية هو انقلابٌ كامل الملامح، يمثل وضعاً غريباً واستثنائياً
(5)
سجّل السّـفراء السودانيون الذين أعفاهم ذلك الجنرال مواقف عكستْ تمسّكهم بمبادئ الثورة التي اعتمدتها قوى الشعب السّوداني الثائر، بمدنييها وعسكرييها، في الوثيقة الدستورية التي حكمتْ الفترة الانتقالية في السودان ونظّمتها. لم تمنح تلك الوثيقة قائد الجيش سلطة تجيز له اعتقال الوزراء أو إعفاء السّـفراء، بل تُركتْ تلك الصلاحيات للجهاز التنفيذي للدولة، والذي تمثله وزارة الخارجية، ومنحتْ سلطات اعتماد قراراته لمجلس السيادة مجتمعاً. ما أقدم عليه الجنرال منفرداً بحلّ أجهزة الدولة التنفيذية هو انقلابٌ كامل الملامح، يمثل وضعاً غريباً واستثنائياً. تبع ذلك القرار إعلان إعفاء سفراء لم يساندوا خطوة الجنرال. بادروا إلى إعلان عدم قبولهم قرارات الإعفـاء، وعدم الانصياع لقرار من استولى على السلطة في بلادهم، وعمد على تنحيتهم وهم سُـفراء معتمدون يمثلون بلادهم في الخارج. لم يكتفِ السّـفراء بذلك، بل أعلنوا، عبر أجهزة الإعلام ذاتها التي خاطبهم عبرها ذلك الجنرال، عن إصرارهم على البقاء في رئاسة سفاراتهم، بمبرّرات تمثيلهم بلادهم، لا تمثيلهم لانقلابيين يخالفون الدستور المؤقت المتفق عليه، فيستولون على السّلطة بليل، ويتسّنمون السيادة على البلاد، بدعوى حمايتها، وتولّي مسؤولية قيادتها إلى براح الديمقراطية والحريات... فتأمّل.. !
تبقى على السّودانيين مهمّة معالجة هذه المرحلة المأزومة، بقدراتهم لا بقدرات الآخرين الغرباء
(6)
يتحدّث الجنرال عن اعتزامه تنظيم انتخاباتٍ تنقل البلاد إلى نظام ديمقراطي في حدود عام 2023، وإنها، لعمري، فترة أكثر من كافية، لاستكمال صناعة "بشير" آخر. لكنك تعجب أن ترى ذلك الجنرال لا يصغي للأصوات المعارضة لانقلابه في الداخل أو في الخارج. هبّ شباب الثورة السودانية تسدّ تظاهراتهم الأفق، لكن الجنرال لا يستجيب. يُدين الاتحاد الأفريقي خطوته ويعلّق عضوية بلاده، فلا يعبأ. ترتفع العصا الأميركية مهدّدة، فلا يعيرها التفاتة. يدينه الاتحاد الأوروبي، فيسدّ أذنيه، حتى جامعة الدول العربية، ومن مقرّها في عاصمة دولةٍ أرضاها انقلاب الجنرال، علتْ نبرتها هذه المرّة، تدعو إلى العودة إلى الوثيقة الدستورية السودانية التي كان ممثلها شاهداً عليها. وقد بدا واضحاً أن أطرافاً في المنطقة أو في الإقليم طمأنتْ الجنرال، لكنه لا يرَى أن مسانديه، عرباً كانوا أو أفارقة، أو حتى إسرائيليين، لهم أجندات ومصالح ومنافع. لا شيء بالمجان في ساحة العلاقات الدولية.
تبقى على السّودانيين مهمّة معالجة هذه المرحلة المأزومة، بقدراتهم لا بقدرات الآخرين الغرباء. على أطراف المجتمع الدولي التي حملتْ تقديراً كبيراً لثورة السّودانيين أن تعمد إلى التذكير بالمخاطر الداخلية والخارجية المحدقة بالبلاد، ثمّ تشجيع قادتها، مدنيين وعسكريين، على التفاهم والحوار. ليسَ مناسباً جنوح أطراف دولية أو إقليمية للضغوط القاسية على السّودان، مثل التي قاومها رئيس النظام البائد، عمر البشير، فأبقته، وعلى رغم أنف السّودانيين، متسلطاً عليهم ثلاثين عاما.