بين صمت وظلال
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
حين يتحسّن الجو في مسقط، منقلباً من الحرارة الشديدة إلى البرودة اللطيفة، ينتهز الناس الفرص لحمل أنفسهم والبحث عن ظلٍّ أو مساحة خضراء، حاملين معهم عدة الطبخ، حيث سيقضون سحابة نهارهم هناك على وقع موسيقى الماء إن كان الذي بجانبهم ساقية ماء، أو ظلال الشجر إن كان المكان جافّا إلا من أشجار السمر والسدر الموزّعة بسخاء في مسارح الرؤية. هناك كذلك من يذهب إلى البحر، لولا أنه يغصّ في الإجازات بالصبية اللاعبين الذين يحتلون القسم الأكبر من مساحات الشاطئ للركض بحرّيةٍ خلف كراتهم القلقة.
اكتشفتُ قبل أيام مجرىً مائياً غير بعيد من البيت الذي أقطن فيه (منطقة العامرات). كان في تلك الساعات مليئاً بالزوّار، منهم من يصوّر ومنهم من يغسل سيارته ومنهم يراقب أطفاله وهم يستحمّون. لم يكن عميقاً، لكنّه محفوفٌ بمزروعات طويلة السيقان، تحطّ أحياناً بينها طيور الحمام، وهي تستريح بعد رحلة إبحار جوية في الفضاء. في اليوم التالي، وكان الوقت صباحاً، أخذت ابني مازن إلى هناك، وما إن وصلنا إلّا وخلع ملابسه وتقدّم إلى الماء رغم برودته. وقد عانيتُ صعوبة في إخراجه من هناك، إلّا بعد أن أمضيت أربع ساعات، لكنّها ساعات لم أشعر بها، فحين تكون أمام الماء، وفي صمت وظلال، يمضي الوقت من دون أن تشعر بثقله. ما سوف يوقفك هو الظلام فقط، وإذا كان القمر مضيئاً فوقك، فإنّ حتى هذا الأخير لا تأثير له. ستتمنّى أن تمضي سحابة مسائك هناك، ويمكن كذلك أن تدغدغك رغبة في النوم بجانب جدول الماء الذي يجري بصورة أزلية، ولا ينتظر أحداً، حسب بيت للشاعر الفرنسي سان جون بيرس "الموج والزمن/ لا ينتظران أحداً" فالزمن يمرّ، كنت موجوداً أو من دونك، كذلك الماء الجاري بأمواجه الظاهرة والصغيرة، سيمضي، أكنت موجوداً أو غائباً.
رفض مازن أن يغادر الماء، وحين أصرّيت عليه، قال لي: "هنا نيني. هنا نيني"، أي ننام هنا. ولكن الجو بدأ يبرُد، ولم نستعد لهذا الاحتمال الصعب، فما كان منّي إلا أن خادعته، بأن حرّكت السيارة وبدأت أتقدّم. هنا فقط قام من صفحة الماء. يجب أن تُستغلّ هذه اللحظات جدّيا في فترة الشتاء، ومنهم من يذهب إلى الصحراء التي تكون باردة في الليل، وهناك يشعلون حطباً ويخيّمون ليلتين أو أكثر. لن يكون هناك، خصوصاً في صحراء بدية، سوى الصمت وشساعة الكون. وإذا كان القمر مكتملاً، يكون المشهد ساحراً يدعوك إلى رسمه ولو بذاكرتك. تأتيني أحياناً صور عبر "واتساب" من أصدقاء يصوّرون الصحاري وقت الغروب، أو يصوّرون أضواء النيران في الليل، بما يشبه دعوةً يصعب تلبيتها في وقتها، وذلك نظراً للنأي والبعد.
من أجل أن تذهب إلى هناك، يجب أن تكون مستعداً لكل شيء، وخصوصا بحمل الأغطية الركينة، فبردُ الصحراء غير مضمون. وإذا لم تكن جاهزا فيمكن أن تقضي الليل وأنت ترتجف، حيث لا يسمح لك الجو البارد بسِنة نوم، إذا كنت مواجهاً له من دون أغطية. يجب أن تطلب النوم من تحت غطاء ركين، وأحياناً من تحت أكثر من غطاء. لكن حين ينقشع فصل الشتاء القصير، تكون الصحراء لاهبة. وحتى مناطق العاصمة لن يكون الجوّ فيها رحيماً. الحرارة على أشدّها، لولا رحمة المكيّفات التي تظل تعمل من دون كلل، ولن تتوفر لها ساعة راحة، سواء في الليل أو النهار، وفي كل مكان يمكن أن تقع عليه قدم بشر.
في تصوير الحرارة بالكلمات، أورد هذه الطرفة من كتاب "رحلة إلى عُمان والجزيرة العربية" للطبيب الأميركي هاريسون: "كنتُ أكتب خطاباتي في أثناء الليل، وأنا عارٍ حتى الخصر، بسبب الحرارة المرتفعة التي كانت تجعل جسدي يتصبّب عرقاً. وذات ليلةٍ، خرجت من انشغالي، لكي أتحقّق من إحدى قطرات العرق، وكانت تجري فوق ظهري، لكن الغريب أنها كانت تجري إلى أعلى، ما دعاني إلى تحرّي الأمر. وأشد ما كانت دهشتي، حين شاهدت حشرة صغيرة تتسارع ضد تيار العرق، واتضح أنها سيئة الحظ، ولذلك أنقذتها وتركتها تذهب، لأني تأكّدت أنها تجد صعوبة في مناخ مسقط".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية