بين فيسبوك وإيفرغراند الصينية
من حيث الكم، يستطيع أي متخصّص في الاقتصاد أن يحشد الكثير من الأرقام، ثم يطلق قلمه في التغزّل في "العملاق الصيني"، لكن الأرقام قد تخدع كاتبها وقارئها، ما لم توضع في سياقٍ أوسع، وأكثر تركيبًا، يجعل دلالاتها أكثر صدقًا. وإحدى المشكلات المزمنة في تقييم الواقع الاقتصادي لأي دولة أن الأرقام في النظم الشمولية تعبير عن الإرادة السياسية للسلطة، أكثر من كونها تعبيرًا عن الواقع. ويقينًا، لا يعني هذا أن النظم السياسية الديمقراطية لا تشهد تلاعبًا بالأرقام على يد الشركات ومؤسسات التقييم، لكن تعدّد مراكز صناعة القرار، وما تملكه وسائل الإعلام ومؤسسات الرقابة وقوى المجتمع المدني يجعل التعتيم التام أمرًا شبه مستحيل.
والاختلاف الجذري بين النموذجين قد تلخّصه المقارنة بين قصتين، لا يفصل بينهما فاصل زمني كبير. ففي العام الماضي توفي الطبيب الصيني، لي وينليانغ، الذي كان أول مَن حذّر من فيروس كورونا، بعد تهديداتٍ من السلطة الصينية واتهاماتٍ متعدّدة، أبرزها نشر شائعات. في المقابل، فتحت إحدى أكبر الصحف الأميركية صفحاتها لموظفة فيسبوك المستقيلة، فرانسيس هاوغن، وتلقف الكونغرس الكرة، فورًا، ليدعوها إلى شهادة علنية صريحة إلى حد الصدمة. وفي حوارها مع النواب، وصفها أحدهم بـ "البطلة القومية". وفي الوقت نفسه تقريبًا، كانت الصين تتكتّم وتنفي وتخفي الأرقام الحقيقية حول "الفقاعة العقارية"، حتى انفجرت كارثة إيفرغراند العقارية، موزّعة شظاياها خارج الصين حتى الأراضي الأميركية. والنموذج الصيني مسكونٌ، بحكم النشأة والتكوين، بأمراض مزمنة، حيث هناك دائمًا رفض للشفافية والعلانية، ورغبة جارفة في جعل إرادة السلطة فوق حقائق الواقع.
ومع التضخم الكبير للاعتماد المتبادل، ومع التشابك غير المسبوق في علاقات التأثير والتأثر في العلاقات الاقتصادية الدولية، تبدو مشكلات الصين الاقتصادية كابوسًا عابرًا للقارّات، فكما أن الأزمة المالية الأميركية في العام 2008 تحولت إلى أزمةٍ ماليةٍ عالمية، فإن الفقاعة العقارية الصينية ما تزال مرشّحة للتحوّل إلى أزمة عالمية، حيث الشركة العقارية الكبرى المتعثرة ليست سوى قمة جبل الجليد. وقد يكون النظام المصرفي الصيني الخاضع لسيطرة الحزب الشيوعي قادرًا على تلطيف حدّة الأزمة أو تأجيل انحدارها إلى ما هو أسوأ، لكن حجم "غير المعلن" من الأزمة تتداوله دراساتٌ متخصصةٌ عديدة منذ سنوات، لكنها للأسف بقيت بعيدةً عن اهتمام الإعلام.
التغنّي بما تسمى "المعجزة الصينية" و"النموذج الصيني" هو من أعراض الرغبة في الفرار من الديمقراطية
وفي الظل، تتضخّم أزمة أخرى لا يُستبعد أن تكون عواقبها أكثر خطورة بكثير من الأزمة المالية، حيث تنتظر الصين وصول عدد كبار السن بها إلى 300 مليون بحلول 2025، وهو رقم سيكون منعطفًا في مسار التوازن بين قمة "الهرم السكاني" وقاعدته، وهو ما يُتوقع أن يقفد الاقتصاد الصيني، ولو جزئيًا، إحدى أهم ميزاته النسبية: وفرة الأيدي العاملة الرخيصة. ويضاف إلى ما سبق العبء الكبير الذي يمثله الإنفاق على هذا العدد الكبير من "الأفواه التي تأكل ولا تنتج"، بحسب التعبير النازي سيئ السمعة. وهذه التحولات المتزامنة، بالإضافة إلى مشكلات أخرى، توجّه ضربة قاصمة لخطاب: "النموذج الصيني"، وهو خطابٌ واسع الانتشار عربيًا، حيث يؤكّد كثيرون أن التجربة الصينية تؤكّد إمكان التقدّم من دون حريات سياسية!
وهذه "الأكاذيب الصادقة" (true lies) أحد أخطر "الأوبئة" التي تنتشر في الخطاب العربي حول إشكالات التخلف، وقد أدّى هذا، ضمن نتائج أخرى، إلى أن تكون الدول والمؤسسات التي تدين "الجانب المظلم" من هذه المعجزة المزعومة غربية فقط، وحتى عندما أُجبـِر مسلمون على العمل القسري في تجربة شبيهة بالتجربة النازية، كانت الأصوات التي تطالب بالاحتجاج على العوار الأخلاقي للممارسات الاقتصادية تأتي من عالم الشمال/ الغرب!
والتغني بما تسمّى "المعجزة الصينية" و"النموذج الصيني" هو من أعراض الرغبة في الفرار من الديمقراطية، والقناعة المسبقة بأن تَقدُّم العرب "يجب" أن يتحقق من دون ارتكاب "خطيئة التحوّل الديمقراطي"، ويكفي هنا أن أشير إلى رقم واحد عن علاقة الثروة والسلطة في هذه التجربة، حيث أورد أستاذ اجتماع في جامعة مانشستر في دراسة عن الرأسمالية أن أكثر من تسعمائة من الألف الأكثر ثراء في الصين هم من أبناء مؤسسي الحزب الشيوعي الصيني وأحفادهم.