تآمر الدولة على المعارضة في تونس
تحوّل نظام الرئيس قيس سعيّد في تونس إلى السرعة القصوى أخيرا في مواجهة معارضيه، وإسداء التعليمات الصارمة بضرورة اعتقال كل من يعكّر صفو رئيس الجمهورية تحت عنواني الإرهاب وتهديد الأمن القومي. "من تجرّأ على تبرئتهم فهو شريك لهم"، جملة صرّح بها سعيّد في إحدى كلماته المصوّرة، في رسالة منه إلى القضاء بشكل رئيسي، ثم إلى كل من يساند ضحايا قمع السلطة ويقمعهم، فكانت الأحكام القضائية من جنس التهديد والوعيد، حيث جرى إيداع كل الموقوفين السياسيين والنقابيين والإعلاميين في السجون، بعد ساعات من الاستنطاق بشأن مواقفهم وخياراتهم السياسية. غير أن بعض القضاة التزموا باستقلالية ضمائرهم وأحكامهم، فصدّروا قرارات مخالفة لرغبات النظام، فوقع تسليط التتبعات الإدارية ضدهم، مع مواصلة ملاحقة من جرت تبرئتُهم أو أُطلق سراحهم.
ومن الملاحظ أن أغلب السياسيين الذين وقع إيداعهم السجن، ورغم اختلاف خلفياتهم الفكرية وتموقعاتهم السياسية، كانوا يعملون على تحقيق تقارب وتقاطعات بين الأطياف السياسية الديمقراطية، بهدف إسقاط الانقلاب بشكل مدني وسلمي، وإنهاء مرحلة العبث الدستوري والقانوني الجارية في البلاد منذ 25 يوليو/ تموز 2021. وهذا يدلّ على قلق السلطة وأجهزتها من اجتماع المعارضة السياسية حول أجندة إنقاذ مشتركة، حيث استثمر قيس سعيّد، منذ بداية الأزمة، في تشتّت القوى السياسية وخصوماتها البينية. ولذلك سلّط على هذا الصنف من السياسيين أقصى التهم (الإرهاب) التي تستوجب أقصى العقوبات، ولم ينتظر في ذلك قرارات القضاء، طمعا في ترهيب المعارضين ولإفشال كل مساعي الحوار والنقاش والعمل المشترك لتجاوز هذه الأزمة المتعددة الأوجه. وفي السياق نفسه، هاجم الاتحاد العام التونسي للشغل، بسبب اشتغاله (الاتحاد) على مبادرة وطنية للحوار، رافضا أي شكل من هذه المبادرات التي يعتبرها تدخّلا في صلاحياته وتهديدا لكيانه.
الاعتقالات التي عرفتها تونس أخيرا ضربة موجعة من السلطة للمعارضة، ولكنها فرصة لإعادة تقدير الموقف بشكل سريع
يؤكّد رد الفعل العنيف الذي واجه به قيس سعيّد خصومه أن الطريق الصحيح لعودة الديمقراطية يتمثل في تجميع القوى السياسية والمدنية المعارضة، وترتيب أولوياتها وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية وتأجيل ما هو مؤجّل من خلافات وتقييمات للمرحلة السابقة. فرغم أهمية المواقف الحزبية والنضالات الفردية التي شهدتها الساحة التونسية منذ الانقلاب، إلا أنها لم تنجح في حلحلة الوضع وتشكيل ضغط جدّي على رأس السلطة، وهو ما وفّر مساحات سياسية مريحة تتحرّك داخلها أجهزة الانقلاب، كما كان تشرذم المعارضة واستهدافها بعضها بعضا، فيما يعيش الشارع التونسي على وقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، سببا قويا لاستمرارية الانقلاب وتمدّده، وهو الذي وإن تآكلت شعبيته وتناقصت أعداد مناصريه بشكل لافت، إلا أن غياب البديل جعله كالسراب الذي يحسبُه الضمآن ماءً.
يمكن اعتبار الاعتقالات التي عرفتها تونس أخيرا ضربة موجعة من السلطة للمعارضة، ولكنها فرصة لإعادة تقدير الموقف بشكل سريع، واستخلاص الدروس من قصة الذئب والقطيع، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإن عصا الاستبداد والظلم لا تفرّق بين إسلامي ويساري وليبرالي، لأنها عمياء صمّاء، ولا تبحث سوى عن الطاعة والولاء.