تجدّد الثورة الليبية .. الإمكانيات والفرص
لم يكن الحراك الشعبي داخل ليبيا، أخيرا، بسبب تعثر الاتفاق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب على إنشاء قاعدة دستورية فحسب؛ بل كان تعبيرا عن الوضع القائم في البلاد منذ سنوات متعاقبة ومتتالية، والأزمات التي يعانيها المواطن في شتى المجالات الاقتصادية والأمنية، وحتى الاجتماعية، في غياب شبه تام للخدمات التي يجب أن يحصل عليها المواطنون من الدولة ومؤسساتها، ذلك كله مقرونا بصراع سياسي محموم بين الأطراف الليبية المتحكّمة بالوضع والمشهد السياسي منذ سنوات، من دون أن تؤسّس لمرحلة، ولو جزئية، يمكن معها إنهاء الأزمات وتجديد السلطة فيها، بل كل الاتفاقات، وحتى الاختلافات السياسية، تمر عبر القنوات الضيقة للمصالح التي ترتضيها الأجسام السياسية في البلاد، الرسمية منها وغير الرسمية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك كله بوجود غطاء إقليمي دولي داعم لكل مسار وتحرك سياسي داخلي.
الحراك الشعبي في الشارع الليبي تبعه قبل ذلك حراكٌ سياسي مكثف لحلحة الوضع القائم في البلاد، والتوجه بها نحو الانتخابات وتجديد السلطة، غير أن هذا الحراك الذي تدعمه وترعاه بعثة الأمم المتحدة للدعم في البلاد لم يتقدّم خطوة واحدة نحو الأمام، بل على النقيض من ذلك، إذ يدفع البلاد إلى الخلف، كما كان متوقعا قبل انطلاقه، باعتبار أنه لا يمكن الجمع بين النقيض وضده، بين تجديد الأجسام التشريعية في البلاد وإنهاء الحالية المتداخلة في الأزمة بشكل أو آخر، والتي تتحاور لإنهاء كيانها السياسي باعتباره جزءا من الأزمة، وليس انطلاقا من الكيان الشرعي والمؤسّسي لها، وبالتالي، لا يمكن أن تتوقع نتائج مخالفة تنهي هذه الأجسام.
لا يمكن أن ينجح حراك يدعو إلى العودة بالبلاد إلى ما قبل ثورة فبراير
ومن هذا المنطلق، ربما كان الحراك أخيرا في الشارع الليبي معبرا عن رفضه جميع الأجسام السياسية الحالية الموجودة في الساحة السياسية الليبية، وإنهاء كذلك المراحل الانتقالية المتعاقبة، والتي تستفيد منها الأجسام السياسية أكثر من أن يكون لها أثر في حلحلة الأوضاع المتعثرة في البلاد، وبالتالي لا إشكال من ناحية المبدأ في التعبير عن ذلك، بل هو مطلوب، غير أن السؤال الذي يطرح: هل يمكن لهذا الحراك، أو هل بإمكانه أو بوسعه، وهو لا يزال صغيرا ومحدوداً، أن يغيراً شيئا من الواقع السياسي الليبي؟ خصوصا في ظل وجوده في مستنقع من العواصف والتعقيدات الإقليمية والدولية، ناهيك عن المحلية، وللإجابة: يجب أن يكون الحراك الشعبي مؤطراً بمشروع قابل للتنفيذ، وأن يكون جزءا من المبادرة والعمل السياسي، لا مجرد فاعل ومحرّك فقط، كما أن تخطّي الأجسام السياسية (في جلها فاقدة للشرعية الحقيقة من القاعدة الشعبية المنشئة لها) يمكن أن يكون ذلك واقعاً، بل وهناك خيارات وملامح اتخذتها البعثة الأممية للدعم في البلاد طريقا في وقتٍ ما لحل الأزمة، وذلك عند إنشائها ملتقى حواريا قفزت به على الأجسام السياسية في البلاد. وعلى أثره، تكوّنت أجسام تنفيذية وسياسية جديدة، وبالتالي، فإن القفز على ما يمكن تسميته "عدم التوافق" على تجديد السلطة التشريعية في البلاد ممكن، وبآليات مختلفة، خصوصا إذا تحوّل الحراك الداخلي إلى حراك مؤثر ومعطل في الدولة، باعتبار أن التحرّكات الشعبية، في آخر المطاف، ما هي إلا لبنة من لبنات التغيير التي تكون مؤثّرة في البلاد بطريقة أو أخرى.
تجديد الثورة في ليبيا، وإن كانت مقوماتها متاحة الآن من تردّي الأوضاع السياسية والمعيشية في البلاد، إلا أن العامل الخارجي المؤثر في الأزمة هو حساباته كذلك، وبالتالي، فإن أي تجديد وتأثير داخلي لا بد أن يضع في الحسبان العامل الخارجي، خصوصا في المراحل المتقدّمة من التغيير. ومن جهة أخرى، لا يمكن أن يحتمل حراك داخلي حقيقي ومؤثر اختراقا سياسيا يفسده ويجعل مجرّد أيقونة تطفو على السطح في أيام قلائل، ثم تعود إلى ما كانت عليه. كما أنه لا يمكن أن ينجح حراك يدعو إلى العودة بالبلاد إلى ما قبل ثورة فبراير، أو حتى أن يكون جزءا في التغيير، باعتبار أن الذي يرفض التغيير في الأول لا يمكن أن يقبله في الآخر، وهذا ينطبق أيضا على الأجسام السياسية الحالية الموجودة في البلاد.