تجربة "المجتمع المدني" في المغارب
لا يمكن العودة بظهور المجتمع المدني في الدول المغاربية إلى أبعد من أواسط الثمانينيات من القرن الماضي وما تلاها: عندما استقرّ مفهوما، وتطوّر تصوّرا فَصَلُبَ عوده، وازدهرت مبانيه التعبوية، وتعدّدت أطره التنظيمية، واكتسح مختلف المجالات التي استقلّت منها الدولة بدوافع معينة. تاريخ هذا الظهور قصير، وهو حديثٌ، في مجمله، لا يكفي للحكم على طبيعته الخاصة إن كانت له، أو على النتائج التي بلغها إن توفّرت له، ولا على الدينامية العامّة التي قد يكون أوجدها في المجتمعات المغاربية في استقلال عن مشروع الدولة الوطنية، ما فشل منها أو لم يصل إلى منتهاه، بما في ذلك الاستراتيجيات ذات المدى الطويل أو المتوسّط المعتمدة، اقتصاديا وسياسيا، للخروج من التخلّف وتدشين مرحلة التنمية الفعلية في أفق الإصلاح والتغيير.
وقد فُهِم مدلول المجتمع المدني، من السّاهرين على استنباته، أنه اختيار عمومي يتبنّاه أشخاصٌ مدنيون بطريقة جماعية، ويكون هدفهم منه (اتخاذ قرارات في المجال العمومي الذي يهمّهم ويهمّ غيرهم، في استقلال عن توجّهات الحكومات والأحزاب والشركات والمراكز الاقتصادية والمؤسّسات الدينية)، كما أنه يصبح، بناء على ذلك، على المنوال الذي ظهر به في السياق الأوروبي، أي قوة شرعية مضادّة، تعتمد على تنظيم مفتوح واختياراته متعدّدة، وليست له من الأهداف المباشرة إلا أن يساهم، من موقعه، في التصوّرات المرسومة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتطوير الوعي قصد الدفاع عن الحقوق والحرّيات بشكل عام. أي أن الصيغة المعتمدة كانت، من حيث الأصل الفكري والاجتماعي، مستخلصة من الأساس القائم على ركيزتين: الدفاع عن حقوق المواطنين وحرّية جمعياتهم، ومواجهة السلطة والسوق بسبب الآثار التي تكون لهما على المواطنين وعلى المجتمع برمّته. لذلك حظي بالقبول وانتشر على نطاق واسع في مختلف المجتمعات المغاربية، وأساسا في المغرب وتونس، بصورةٍ حوّلته إلى رافد من روافد النضال السياسي، وصوتٍ من أصوات التعبير عن التغيير المنشود على أكثر من صعيد.
ومما قد يثير انتباه المحلّل، في علاقة بهذا، أن الحركات الماركسية، تلك التي أصيبت بأزمة نمو خانقة قوّضت مبانيها في أواخر السبعينيات، كانت من الحركات الرائدة التي استوعبت، وربما بسبب طبيعة الأزمة التي استحكمت في مفاصلها، ضرورة العمل المدني، وتجنّدت لبناء أنويته وصوغ البيان الذي يجب أن يتسلح به في المواجهة والعمل على صعيد المجتمع، كما في علاقة بالدولة. فكان انتقال تلك الحركات إلى مجال العمل الشرعي بمثابة نقدٍ ذاتيٍّ للسياسات المتبعة، في ظل العمل السرّي، في معارك النضال الرامي إلى التغيير الجذري لواقع المجتمع، ولنظام السُّلط القائمة في المغارب. وهو نقد ذاتي أيضا للمراحل السابقة التي حوصر فيها عملها السياسي المباشر بكثيرٍ من العنف والتسلّط، ما أدّى إلى تعديل خطط سيرها في مرحلةٍ مختلفةٍ من حيث المهام والشعار، وربما كان في ذلك أيضا نوع من الاستفادة السياسية من طبيعة التحوّلات المستجدّة على الصعيد العالمي، وخصوصا في مجالي المطالبة بالحرية المقرونة بالكرامة وصون حقوق الإنسان في علاقتها بالمواطنة.
الحركات الماركسية، تلك التي أصيبت بأزمة نمو خانقة قوّضت مبانيها في أواخر السبعينيات، كانت من الحركات الرائدة التي استوعبت، ضرورة العمل المدني، وتجنّدت لبناء أنويته
سيُلاحَظ بصورة واضحة أنَّ الدولة الوطنية تعاملت برِفْقٍ مع نشوء العمل المدني في مناطقها الحضرية ذات الكثافة السكانية في بعض الأحيان. وبصورة خاصة، لأن تلك المناطق تميّزت باستمرار بهشاشة الأوضاع الاقتصادية للسكّان، مع ما كان في هوامشها الحضرية من بؤر التوتر، بالإضافة إلى الفقر المدقع الذي كان يتسبب في ظواهر كثيرة مثيرة... إلخ. وقد لوحظ، بناء عليه، كيف انخرطت مؤسّسات المجتمع المدني أو جمعياته في العمل بحميّة غير مسبوقة لاحتلال الموقع المؤثر في مجال الاختصاص، اعتمادا على برامج طموحة غالبا ما كانت من تمويل المؤسّسات الأجنبية، وخصوصا منها الأوروبية، العاملة في ميادين: التنمية الاقتصادية، وحقوق الإنسان، والحكامة، والنضال السياسي السلمي.
ومن الإنصاف أن نذكر أن الدور الذي قام به المجتمع المدني في الدول المغاربية كان ملموسا، ثم صار مؤكّدا مع تزايد الحاجة إلى مجالات اختصاصه، وربما كانت القروض الصغرى من أهمّها، لأنها حرّرت، إلى حين، فئات كثيرة من العوز الذي كانت ترسف فيه. غير أن تأكيد المجتمع المدني على وجوب العمل السياسي المرافق لذلك، وانخراطه الفعلي في التحريض على أهمية الوعي في التطور والتحرّر من الأوضاع الجماعية المُذِلَّة، هذا فضلا عن جنوحة نحو العمل الحقوقي المباشر، بل ولربما بصورة أساسية في بعض الأحيان. وهو ما نبَّه الدولة الوطنية إلى ظاهرتين قويتين: أولاهما، الانتشار الكبير لحلقات ذلك المجتمع المدني، وشموله الأوفى لمختلف المجالات التي كانت الدولة تراقبها ولكنها لا تستطيع النهوض بمتطلباتها التنموية، أي أن اليسار، بعبارةٍ أخرى، أصبح في قلب المجتمع من جديد. وتتمثل الظاهرة الثانية في انخراط فئات سياسية، أغلبها من الشباب المتعلّم، تنافح عن التقدّمية وتتشبّه باليسار في عملها النضالي الرامي إلى التغيير الجذري في مختلف الأعمال الاجتماعية في المناطق الحساسة... تلك التي تعتبرها الدولة الوطنية مراتع بؤس وشقاء وفقر. أما في ارتباطٍ بالحرية وحقوق الإنسان والعمل في سبيل قيام مؤسسات الحكامة الرشيدة فقد تبيّن لها، في ما يبدو، أن القوى السياسية، التي كانت تتدافع للفوز بالأحقّية في العمل المدني العام، ماضية في التجنيد و"العسكرة" اليسارية بالطموح نفسه الذي كان لأغلب قواها في ماضي العهد والأوان، مع احتساب التحوّلات التي مَسَّت تطوّرها، والأزمات التي فعلت في أبنيتها، والعثرات التي أصيبت بها، و"النقود" الذاتية التي حرّرت بعضها من أوهامها عن التغيير بالنيابة عن "الجماهير ذات المصلحة الحقيقية في التغيير"... وكلها عناصر قوة يمكن لها أن تلهب بعض القطاعات الاجتماعية وقد تحثّها الثورة.
الدور الذي قام به المجتمع المدني في الدول المغاربية كان ملموسا، ثم صار مؤكّدا مع تزايد الحاجة إلى مجالات اختصاصه
هذا ما يُفهمنا كيف تحوّل المجتمع المدني في أغلب الدول المغاربية في ظرفٍ وجيز، ولكن أيضا بسبب طبيعته المضادّة للسُّلَطِ القائمة، في أحيانٍ كثيرة، إلى ما يشبه المعارضة السياسية بأفق تعبوي تحرّري يناهض الاستبداد، ويعمل وفق "أجندة ديمقراطية" وُصِفَت، في حالاتٍ كثيرة، بأنها "خاضعة" أو مستوحاة من برامج الجمعيات أو المؤسّسات أو الدول المانحة في أوروبا، وأنّ لها علاقة بالاستراتيجيات الداعية إلى التغيير، أو الساعية إلى بناء منظومة قيمية جديدة بمقدورها، عن طريق النضال السياسي السلمي، (الناعم)، أن تحقّق ذلك التغيير بأقل الخسائر الممكنة... بديلا للتجارب النضالية السابقة، ومعظمها مني بالفشل، وإقرارا بواقعية التغيير السلمي نفسه، خصوصا في تعارضه مع العنف والقوة "المسلحة" التي لا تقود إلا إلى الإرهاب.
ولو قدّرنا كيف التفّت نُخَبٌ مدينية، تنتمي في معظمها إلى الطبقات الوسطى في المجتمعات المغاربية، على تلك "الأجندة الديمقراطية"، لأدركنا، بطبيعة الحال، كيف أنّ انخراطها في معمعان النضال السلمي إلى جانب الشباب المتحمس، مَثَّلَ أكبر تحدٍّ اجتماعي في وجه السلطات القائمة، وربما كان الحَراك الاحتجاجي الذي انفجر هنا وهناك هو التعبير المباشر عن القوة الفعلية التي أوجدها المجتمع المدني في ساحة الصراع، وحقّقها بالفعل عن طريق المعارضة والمقاومة المدنية.
ومن الواضح، في ارتباطٍ بذلك، أن الدولة الوطنية أصبحت تواجه، لأول مرة، أسلوبا مختلفا في النضال، ودرجةً سياسيةً عالية من المواجهة (الهادئة تقريبا). والأهم أنها لم تعد تملك إلا القوة الفعلية (المخابراتية والعسكرية) لمواجهة ذلك الأسلوب، ما كان يولّد، على الصعيد الداخلي كما في علاقة ببعض دول المجتمع الدولي، حالة من الرفض غير مسبوقة. بحيث انتقل قمع الدولة من "المشروعية الاستبدادية"، عنوان البناء في المراحل التي تلت الاستقلالات الوطنية، وأصبح عنوان تحكّم يناهض الديمقراطية ويقمع الحرّيات ويواجه الحَراك الشعبي. جاءت الطبقات الوسطى بمشروع اجتماعي واقتصادي سلمي، وتراجعت "مشروعية الدولة الوطنية" بكامل أجهزتها، عندما فشلت في تحقيق التنمية المستدامة، وفي بناء الديمقراطية الحديثة المستندة إلى فصل السلطات.
تراجعت "مشروعية الدولة الوطنية" بكامل أجهزتها، عندما فشلت في تحقيق التنمية المستدامة، وفي بناء الديمقراطية الحديثة
سنلاحظ أن انهيار "النظام المجتمعي" الذي أقَرَّهُ المجتمع المدني على امتداد ثلاثة عقود، أو أكثر، كان في مصلحة إحياء الدور التقليدي (اللاديمقراطي) الذي مارسته المؤسّسة العسكرية (الانقلابية) في مختلف مراحل الصراع. ثم تبيّن أن هذه المؤسّسة لم تفلح إلا في إرساء قواعد الاستبداد السياسي، والتحكّم في الخيرات الوطنية، وقمع مختلف مظاهر الوجود الديمقراطي الحر... هذه المرّة بالاستفادة القصوى من التطوّرات التكنولوجية المتعلقة بمراقبة الحركية المجتمعية وتتبع اتجاهات تطوّرها، وتصفية ما قد يشوب مسارها من "انحراف" يُرى عادة كثورة محتملة.
خلاصة هذا أن الاستقلال الوطني الذي كان قد رشّح الدولة الوطنية لكي تلعب دورها التحرّري من ربقة الاحتلال الأجنبي أمسى، في سبعة عقود تقريبا، دورا لا مندوحة عنه لقمع الديمقراطية المحلوم بها في إطار السلم الاجتماعي المنشود.