تجسّس على العدو والصديق
عديدة هي التفاصيل التي يتم الكشف عنها تباعاً، والتي تحيط بما بات يعرف بفضيحة "تحقيقات بيغاسوس". ليس مفاجئاً أن دولا تتجسّس على مواطنيها أو مسؤولين في دول أخرى. "التجسس" مهنة قديمة، ولطالما تفننت أجهزة المخابرات في ابتكار أساليب وأدوات لتطويرها، نظراً إلى الدور الحاسم الذي يمكن أن يؤدّيه في زمن الحرب كما في زمن السلم. الفارق اليوم أن التجسّس لم يعد يحتاج إلى تقنيات معقدة أو أشخاص على درجة عالية من التدريب، كي لا يتم افتضاح أمرهم. يكفي امتلاك القرار السياسي - الأمني، المال، والتواصل مع شركة إسرائيلية مستعدّة لبيع برنامجها لمن يدفع لها ما تطلبه.
نظرة أوليّة وسريعة على قائمة الدول التي انخرطت في التجسّس، باستخدام برنامج بيغاسوس التابع لشركة "أن أس أو" الإسرائيلية، كفيلة بإظهار كيف يمكن أن تساهم التكنولوجيا في توسيع نطاق التجسّس من خلال الهاتف الذي يندر أن يتمكّن أي إنسان من الاستغناء عنه. وقد طوّرت الشركة تقنية تتيح للمستهدِف محاولة التجسّس على من يريد بخطوات بسيطة.
ولذلك ليس مفاجئاً معرفة أنه تساوى رؤساء دول وملوك ووزراء ومسؤولون سياسيون مع نشطاء وحقوقيين ومعارضين وصحافيين. وشمل التجسّس هذه المرة الذين يصنفون في خانتي الأعداء والأصدقاء. ولعل من أبرز السمات التي تربط بين الدول التي حصلت على برنامج الشركة الإسرائيلية أنها تعاني من أزمة ديمقراطية. يحرّكها هاجس الخوف مِمّن ترى فيهم أعداء، سواء من داخل الدولة أو خارجها.
ولعل الشرح الذي قدمه موقع "درج" اللبناني، وهو من ضمن 17 مؤسسة إعلامية في العالم، اختيرت لإنتاج تحقيقاتٍ عن الفضيحة، بشأن الفترة التي تم فيها بدء التجسس من بعض الدول ومدى ارتباط الخطوة بأزماتٍ وأحداثٍ سياسيةٍ محدّدة، يظهر كيف أن اللايقين هو القاسم المشترك الآخر بين ما يمكن وصفه بـ"تحالف المتجسّسين"، إلى جانب الشعور الضمني بالعجز والشك الدائم. وهذا الوضع يفسّر، لو جزئياً، ورود أسماء مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومحاولة تجسّس "طرف مغربي" عليه، والاستهداف الإماراتي للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وأبنائه ورئيس الوزراء السابق أحمد عبيد بن دغر ووزير الخارجية الأسبق عبد الملك المخلافي، من دون أن تكون اللائحة اليمنية خالية ممن يفترض أنهم في خانة الحلفاء. تماماً مثلما يصعب تفسير التجسّس الإماراتي على وزير الدفاع اللبناني السابق إلياس بو صعب، والمحاولات التي طاولت أبرز مسؤولي الخارجية المصرية من الرياض. مع العلم أن الأخيرة نفت، على لسان مصدر، صحة استخدام البرنامج. أما الغموض الكبير فيتركز في المغرب بشأن الجهة التي حاولت التجسّس على الملك محمد السادس وجميع المقرّبين منه.
تذكّر "تسريبات بيغاسوس" بما جرى قبل نحو عقد مع "تسريبات ويكيليكس". في حينه، أثارت الوثائق المسرّبة فضائح بالجملة في كل بلد. سارع الجميع إلى تكذيب ما ورد فيها أو التنصّل منها، كما يجري اليوم تماماً. لكن ذلك لم يمنع تداعياتها من الظهور تباعاً، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ في كل بلد.
ولا يمكن توقع أن يكون الأمر مختلفاً هذه المرّة أيضاً، فالشركة الإسرائيلية تخضع لإشرافٍ من وزارة الأمن مباشرة، ولا يمكن تخيل أن "التحقيق" الذي فتح في إسرائيل سيتسبّب لها بأزمة كبرى، إلا في حال ضغطت دول عدة. كما أن حجم الأزمات الدبلوماسية التي ستنتج عن التسريبات سيبقى رهناً بما قد يتكشف في الأيام المقبلة من تفاصيل إضافية، وبما ستظهره التحقيقات، خصوصاً في فرنسا بعد استهداف ماكرون.
أما الخلاصة الأهم فهي أنه لا أحد في مأمن من التجسّس عليه، متى ما اتُّخذ القرار بذلك. ولا صحة لوجود أمان رقمي باقتناء هاتف دون الآخر، أو استخدام تطبيقٍ للمحادثة عوضاً عن آخر.