تجويع الفقراء لهزيمة الإمبريالية
هي المرّة الأولى التي يترجم فيها حكّام موسكو فهمهم لنظامٍ دولي جديد أكثر إنسانية وعدلاً، يبشّرون بقرب موعد إحلاله بدل الأحادية القطبية الأميركية، على ساحتين اثنتين بتوقيت متزامن، سوريّة وأوكرانيّة. ترجمة واحدة يصلح أن تتخذ شعاراً يليق برطانة سوفييتية على وزن "تجويع الفقراء لهزيمة الإمبريالية". في الشأن السوري، هناك سلاح صار اسمه معولماً وقد تبنّته كل اللغات تقريباً، "فيتو"، يُلفظ بسهولة، فيه شيء من الإيقاع الموسيقي الذي يستحيل أن يوحي بقرارات دموية من صنف رفض إدخال مساعدات إنسانية إلى السوريين المحاصرين في المناطق الخارجة عن سيطرة الروس والنظام السوري والمليشيات اللبنانية والإيرانية والعراقية. خمسة ملايين ونصف المليون، محشورين في خمسة آلاف كيلومتر مربّع، صاروا منذ الأسبوع الماضي رسمياً محرومين من مساعدات كانت توزّعها الأمم المتحدة عليهم بموجب قرار لمجلس الأمن الدولي يتم تجديده كل سنة ثم كل ستة أشهر خضوعاً للابتزاز الروسي، إلى أن ضاق الروسي ذرعاً فقرّر وقف اللعب: إما أن يتم تسليم المساعدات إلى النظام السوري وهو يقوم بتوزيعها (سرقتها) أو انسوا الأمر. مارس "السيد لا" الجديد فاسيلي نيبينزيا، خليفة السوفييتي أندري غروميكو هوايته في نيويورك واستخدم الفيتو مجدداً، ربما للمرّة الـ18 لحماية النظام السوري منذ 2011. فيتو يهين حلفاء فلاديمير بوتين قبل أي طرف آخر، فمشروع القرار المكسور بالفيتو هو برازيلي (وسويسري). لكن كأنّ الإهانة من الروس حلال عند السيد لولا دا سيلفا، لذلك لم يُسمع ولو اعتراض ناعم منه أو من إدارته على الصفعة الروسية الصديقة. المنطق الذي جعل يد نيبينزيا ترتفع في جلسة التصويت بسيط: معاقبة السوريين على رفض الاستعباد يجب أن تستمر إلى الأبد، كالأسد تماماً، فكلما جاع السوريون وأهينوا وتعرضوا للإذلال أكثر، كان النظام الدولي المطروح روسياً أكثر وضوحاً: لن يجرؤ شعب على أن يثور مجدّداً ضد نظام صديق لروسيا ولحلفاء روسيا ولحلفاء حلفائها.
في أوكرانيا، الأمور أسهل. لا داعي لفيتو، مجرّد إجهاض لمساعي إنقاذ اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية يقودها وسيط تركي يحتار الكرملين كيف يصنّفه منذ صدمات تأييد تركيا دخول السويد حلف شمال الأطلسي وموافقتها على توسيع العضوية لكي تشمل أوكرانيا، وتسليمها كييف ضباط كتيبة "آزوف" المقيمين في تركيا بموجب اتفاق أنقرة وموسكو، هذا كله من دون فتح جراح الطائرات المسيّرة التركية بيد الجيش الأوكراني والرفض التركي الحاسم لقضم سيادة أوكرانيا والتمسّك بأوكرانيّة القرم وتتارها. رفضت روسيا تمديد الاتفاق يوم الاثنين رسمياً لكي تحرم العالم من 20% من مصادر قمحه، ولكي ترفع سعره لحظة إعلان الخبر 4%. يدرك الروس أن الحبوب الأوكرانية ستُباع في النهاية، إن لم يكن عبر السفن فبرّاً، وإن بسعر أعلى مما يُصدّر عبر البحر الأسود. ومن الذي يتضرّر أكثر من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية؟ أهل لندن وبرن وشيكاغو وطوكيو، أم سكان مدن أفريقيا وأرياف شرق آسيا وفقراء أميركا اللاتينية والشرق الأوسط؟
الحال أنّ المنطق الروسي تجاه أوكرانيا يختلف بالتكتيك عما يسيّر القرارات الخاصة بسورية، لكنه يلتقي معه في الاستراتيجيا: على العالم أن يجوع أكثر، وعلى الفقراء أن يزدادوا وعلى أرقام التضخم والركود والبطالة أن تنفجر مثلما هو حاصل منذ اجتياح روسيا الأراضي الأوكرانية، لأن النظام الدولي الجديد الموعود بقيادة روسيّة لا يمكن أن يُشيَّد إلا على حطام الديمقراطية، والديمقراطية لا تمسي حطاماً إلا على يد الشعبويات، والشعبويات لا تولد إلا من رحم الأزمات الاقتصادية.
المطلب المحقّ والطارئ بإصلاح النظام الدولي وجعله أكثر ديمقراطية وعدالة وتنوّعاً ومراعاة لحساسيات جغرافية وسياسية من أجل العيش في كوكب أفضل، لا يستقيم مع مشروع العالم متعدد الأقطاب على الطريقة الروسية، إلا بقدر ما يقتنع الجمهور بأن الجوع والفقر والديكتاتورية هي أقصر الطرق إلى محاربة الإمبريالية.