تحايا تشكيليين عرب إلى غزّة
يجوز، إذن، أن تُحَيّا غزّة بلوحةٍ تشكيليةٍ في معرضٍ يتظلّل باسمها، ولا تكون للّوحة صلةٌ بالحادث من تمويتٍ هناك... هذه واحدةٌ من خلاصاتٍ قد تصل إليك، عندما تختم جولتك في المعرض الجماعي الذي عنون نفسَه "السماء فوق غزّة متخيّلة"، في غاليري المرخية في الدوحة، واجتمعت فيه لوحاتٌ من 54 تشكيليّاً من 18 بلداً عربياً. ومبعث السؤال أنه فيما لوحاتٌ (وأعمال نحت و...) تنبض بالحدث الحيّ في غزّة، أنجزها أصحابُها في غضون المقتلة، ثمة أُخرياتٌ رسمها فنّانوها قبل أن يُشعل العدو جريمته المشهودة. ولمّا كانت البادرة، بذاتها أولاً وبجمالها تالياً وبمحمولاتها أيضاً، تستحقّ تثميناً خاصّاً، سيما أن المعرض ينتظم بالتعاون مع الهلال الأحمر القطري، وبعضُ ريعه مخصّصٌ لفلسطين، فإن اجتماع هذا العدد الكبير من التشكيليين العرب، ومن حساسياتٍ فنيّة متنوّعة، تحت سماء غزّة، يعدّ حدثاً ثقافياً عربياً، ينهض على البديهية إياها، أنها الثقافة، بمشمولاتها من فنونٍ وإبداعاتٍ أدبية وبصرية ومشهدية، الجامع الأول (والأهم) للوجدان العربي الموحّد، والذي يلتقي هنا في ظلال موضوعة فلسطين، في مقطعها الغزّي الشديد الكثافة... هنا عبد الرحيم لوتاه من الإمارات ومحمد عمر خليل من السودان وسلمان المالك من قطر ومي قدورة من الأردن وسليمان منصور من فلسطين ومنير الشعراني من سورية وحكيم العاقل من اليمن ومحمد عبلة من مصر وحسين عبيد من عُمان وزمان جاسم من السعودية ومحمد بن لامين من ليبيا وثريا البقصمي من الكويت وحسّان بورقية من المغرب وباكر بن فرج من تونس، وحمزة بونوة من الجزائر، وعلاء بشير من العراق، ولبنى الأمين من البحرين وآناشار بصبوص من لبنان، وزملاء لهم، هنا في فضاء التأويل والاكتشاف، في متن الجمال ومفرداته، في معانٍ تقترحها غزّة.
يجمع عمل الليبي محمد بن لامين "الإخلاء بقوة النار" (2024) أجساداً نحيلةً بلا ملامح، من معدن، في فضاء منكشف، تتدافع، ترتمي وتحاول أن تنهض، والإيحاء يُنبئُ عن اليوميٍّ في غزّة، عن البحث هناك عن نجاة. واختار القطري يوسف أحمد لعمله عنواناً شديد الوضوح "غزّة تحت القصف"، حيث مربّعات تحتشد فيها رمياتٌ من ورق مصنع ونتف من شجر النخيل زاوجت بين التناسق وغيابه. وليس في الوسع أن تُشاهد لوحة العراقي علاء بشير "تحت الأرض" (2024)، من دون تأويل الناظر فيها، فعينان جاحظتان وثالثة تحتهما في تشكيلٍ أشبه بجسد، يطلع من كوّة مدمّاة بأحمر موشّى بخطوط سوداء، وفي أعلاه أصابع قدم، كأنها العيون شاهدة على مذبحةٍ تنفر بالدم. وبإيقاعاته العالية، بالفحم على الورق، رسم السوري، وهو متراسٌ فائقٌ في التشكيل العربي، يوسف عبدلكي، "يوميّات غزّة" (2024)، وهل من يوم هناك يخلو من قذائف وصواريخ وشهداء، على ما في اللوحة أيضاً. أمّا في "أمان" (2024)، وهذا اسم لوحة الفلسطينية رانية عامودي، يلتفُّ الفلسطيني مع الفلسطينية، أخته الصغرى أو زوجته أو ابنته، لكن العيون يقظة، متحسّبةٌ من شيءٍ ما، والفانوس، في يد المرأة التي تحتضنها يداه، ينير لنرى ظلالاً ومكاناً مفتوحاً على ثبات فلسطيني. وثمّة تلوينٌ يأخذ الأحمر الفاتح إلى صُفرة ظاهرة، في لوحة وديع خالد "ناجي"، فيصنع مشهداً موصولاً بمسارٍ طويلٍ في التشكيل الفلسطيني، حيث الأم بثوبها ومنديلها المعلومين، في صفنة انتظارٍ أمام ما قد يكون سؤالاً يوحي به مشهد طفلها قدّامها. وعلى غير هذه التنويعات، وقد شارك في إطلالاتٍ قويةٍ ضمنها في المعرض، المُلوِّنان، الكبيران في المشهدية الفلسطينية العريضة، متّعهما الله بالصحة، سليمان منصور ونبيل عناني، على غيرها، آثر تشكيليون عرب أن تحضر بيئاتٌ من بلدانهم مع هذه الإبداعات لسبعة رسّامين ونحاتين فلسطينيين، فكانت مصر، وكان الخليج، والعراق، والمغارب، فاغتبطت عيونُنا، نحن من تفرّجنا على كل الأعمال، بالأنوثة في الحي الشعبي في لوحة الكويتي عبد الرضا باقر "تأمّل وانتظار" (2024)، وبأنوثةٍ أخرى في لوحة البحيريني عبد الجبار الغضبان "ستّ فتيات" (2017)، وبالمزاج العالي في لوحة المصري مصطفى رحمة "رجل وامرأة" (2020).
ليس من وظيفة هذه المقالة العجلى أن تأتي على كل لوحةٍ وعمل في "السماء فوق غزّة متخيّلة"، ولا أن تغفل عن واحدٍ من "أبواب 48" في 2018 لمحمد الجالوس (الأردن)، ولا أن تنسى صنيعاً بديعاً للمصري وليد عبيد في لوحته "فلسطين الثائرة" (2018)، ولا أن تقفز عن ظلالٍ وتلاوين ونحوتٍ ومشغولاتٍ لأسماء أخرى مضيئة في التشكيل العربي الراهن، وإنما المقالة لتزجية تحيةٍ لمن انتصروا لأهل غزّة في وجبة الجمال الثقيلة هاته.