تحريض مع سبق الإصرار
قبل أيام، اختار مقدّم برامج على محطة إذاعية لبنانية في برنامجه الذي يدعو المواطنين إلى "فشّ خلقهم" طرح موضوع بعنوان "عبء النازحين" السوريين. بعد مقدمةٍ افتتاحيةٍ، تحدّث فيها عن "ازدياد الخوف من تغيير ديمغرافي نتيجة تغلغلهم بالمجتمع والنسيج اللبناني وانتشارهم العشوائي بكل المناطق من دون استثناء"، وجّه سؤاله: "كيف ممكن لنا نحن كلبنانيين (لا كدولة) أن نحلّ قضية النازحين"، على اعتبار أن "المحاولات السياسية لعودتهم خجولة، والنظام بسورية يبدو ما بدو إياهم، والبعض في الأمم المتحدة يفكر بدمجهم مع المجتمعات المضيفة".
يُقال دائماً إنه يمكن قراءة الكتاب من عنوانه. وهنا كانت المقدّمة أولاً، ومن ثم السؤال، كفيلين بإعطاء فكرة عمّا ينتظر المستمع. جاء الصوت الأول منادياً بإنشاء "مجموعات لتحرير الاحتلال السوري المدني من لبنان"، لأنه "لا بد من إخراجهم بالقوة". ثم ظهر مقترحٌ ثانٍ بغض الطرف عن مراكب الهجرة للسماح بتوجّه السوريين نحو أوروبا. والثالث بعدم تأجيرهم المنازل والمتاجر وعدم السماح لهم بالسكن بين اللبنانيين، والرابع يطالب بعدم توظيفهم للتضييق عليهم. .. هذه العيّنة ليست استثناء في لبنان اليوم. إنها تعكس آراء طيفٍ لا يمكن الاستهانة به من اللبنانيين الذين يرون أن السوريين بعد أكثر من عقد على لجوئهم إلى لبنان هم سبب تفاقم أزماته.
ليست المشكلة في طرح موضوع اللاجئين السوريين، فهذه القضية عنوان للنقاش الدائم. المشكلة في كيفية طرح المشكلة، وتوجيه المستمعين إلى محور محدّد ثم تولي ضخّ معلومات مضللة أو عدم تصحيح معلومات خاطئة ترد على ألسنة المتصلين.
نموذج آخر لا يقل سوءاً قدّمته إحدى المحطات اللبنانية أخيراً عبر تقرير بعنوان "مفوضية اللاجئين تخطّط لجمع المليارات لمنع عودة النازحين". انطلق معدّ التقرير من مطالبة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، في خطّتها للاستجابة الإنسانية عن عام 2022، بنحو 1.8 مليار لتغطية كلفة النزوح السوري. يخبرنا المذيع أنه "رقم ضخم وصادم تكشف عنه هذه الوثائق"!! مع العلم أنه سبق للمفوضية على مدى السنوات الماضية أن أطلقت نداءاتٍ لجمع مبالغ أكبر.
بالنسبة إليه، يعني السعي لجمع نحو ملياري دولار "وجود مخطّط للمفوضية لإبقاء النازحين خارج بلادهم وتثبيتهم في المجتمعات المضيفة والاستفادة المادية منهم". ولا يُنسى أن يخبرنا أن "جمع 39% فقط من المبلغ يعني تخلّي دول العالم عن تحمّل هذه الفاتورة الباهظة". والأمران يعنيان بالنسبة إليه "إبقاء النازحين في الدول المضيفة وتكليف فاتورة النزوح لتلك الدول كما حدث مع اللاجئين الفلسطينيين". قبل أن يخلص إلى أنه "لا عودة". كما تبرّع لإخبارنا أن "خفايا ملف النزوح ومؤامراته على لبنان لا تقتصر على الخارج، بل يساهم فيها الداخل من جهات سياسية وبلديات وجمعيات ومنظمات ووكالات محلية تسعى إلى إدخال عدد كبير من مكتومي القيد واللاجئين الفلسطينيين إلى قيود النازحين، رغبة في خلط النسيج الاجتماعي لمجتمع النازحين أنفسهم، فيختلط النازح السوري بمكتومي القيد، النازح السوري باللاجئ السوري، لتكون النتيجة تغييرا ديمغرافيا خطيرا في لبنان، وتخريب البنى التحتية واستنزاف آخر الموارد المالية في ظل تخلٍّ دولي وتواطؤ داخلي".
لا يمكن تصوّر كيف تمكّن معدّ التقرير من إنتاج هذه الخلطة من الهراء، وكيف سُمح له بنشره لولا أن الغاية الأولى والأخيرة تتمثّل في تعمّد ضخّ معلومات خاطئة وتحريضية في ما يتعلق بملفّ اللاجئين السوريين، تزامناً مع الضغوط لإعادتهم إلى سورية تحت عنوان العودة الطوعية، في وقتٍ يدرك الجميع أن لا عودة طوعية ولا عودة آمنة إلى سورية حالياً، وأنه من دون حلٍّ سياسي لا يمكن توقع تغيير الكثير في المشهد.