تحوّل حزب الله من المقاومة إلى الردع
في تجارب حركات التحرّر كلّها، كان الفرق، التقني والمادّي والعسكري، لصالح البلد المُستعمِر. ليس التفوّق الإسرائيلي اليوم استثناءً، وإن كان الدعم الأميركي المباشر والصريح واللامحدود يزيد من هول الفارق الإسرائيلي. ولكن، لا تكمن مشكلة حزب الله في هذا التفوّق، على أهمّيته وأهمّية تبعاته، بل تكمن بالأحرى في مستوىً آخرَ حاسم الأهمّية هو المستوى السياسي.
الانكشاف السياسي للحزب أشدّ خطورةً من الانكشاف التقني أو الأمني، أو لنقل إنّ ثقل الفارق التقني يصبح مُؤثّراً أضعافاً مضاعفةً مع وجود الفارق السياسي، الذي يميل لصالح إسرائيل، بما لا يقلّ عن الفارق التقني الواضح. الفارق السياسي الذي نتكلّم عنه هو بين موقعي الحكومة الإسرائيلية في المجتمع الإسرائيلي وحزب الله في المجتمع اللبناني. نتكلّم عن غياب المقبولية الوطنية العامة للحزب، لأنّه لم يعد يمثل ميلاً سياسياً عاماً في المجتمع الذي يتحرّك فيه، ولا يُشكّل نقطةَ التفاف داخلي كما يكون الحال عادة في عموم حركات التحرّر.
من أجل المقبولية الوطنية العامّة ينبغي أن يتوافر أمران لا يتوافران لدى حزب الله، وهما عمومية حركة التحرّر، أي إنّها تُعبّر عن المجتمع بالمعنيين العضوي (ألّا تكون فئويةً في جسدها ولا في مرجعيتها) والسياسي (ألّا تكون إقصائيةً وتسلّطيةً في علاقتها بالمجتمع). في حالة حزب الله، ونظراً إلى تكوينه الفئوي، يوجد مستويان من العلاقة بالمجتمع: الأول علاقته بمجتمعه المحلّي أو بيئته (المجتمع الشيعي اللبناني)، وهو في هذه العلاقة يمارس تسلّطاً مُعزَّزاً بقيمة القضية (المقاومة والقضية الفلسطينية) التي يتكلّم باسمها، ولا يسمح بظهور الأصوات المُعارِضة التي قد تتعرّض للإخماد بطريقة دموية. وتقديرنا أنّ منسوب هذا التسلّط يزداد كلما تراجع منسوب الحضور الفعلي للقضية لصالح متطلّبات سلطة الحزب، التي تتحوّل إلى ما يشبه سلطة دولة غير مُعلَنة. والمستوى الثاني علاقته بالمجتمع اللبناني العام بتركيبته السياسية والطائفية، التي تبغض حقيقة وجود الحزب فيها، لأنّه الطرف الذي يحمل السلاح الساحق، الأمر الذي يجعل منه طرفاً مسيطراً في التركيبة، وإن أظهر الحزب على الدوام انضباطاً جيّداً في استخدام السلاح في خلافات ومناوشات الداخل، ولم يسمح باستخدامه المباشر سوى مرّة واحدة (7 مايو/ أيّار 2008). في الحالتَين (ضمن المجتمع الشيعي وضمن التركيبة اللبنانية) يبدو أنّ الحزب بات يفرض نفسه بالقوّة أكثر ممّا يفرض نفسه بمشروعية سياسية مُستمدَّة من مشروعية القضية الوطنية.
الانكشاف السياسي للحزب أشدّ خطورةً من الانكشاف التقني أو الأمني
منذ زمن طويل، لم يعد حزب الله "المقاوم" يُعبّر عن التوجّه العام في المجتمع اللبناني. ويعتقد الكاتب أنّه كان كذلك حتّى ربيع عام 2000، حين فرض على الجيش الإسرائيلي الانسحاب من الجنوب اللبناني. المجهود القتالي الرائع للحزب في تلك الفترة، كان يُغطّي فئويته ومرجعيته. ولكنّه بعد ذلك دخل في مرحلة انحدار سياسي ترافق مع ميل الحزب أكثر إلى التمأسس والاقتراب أكثر من هيكلية الدولة وروحيتها، وما يرافق ذلك من ترهّل، ومن توضّع بيئةٍ صالحة للفساد، ولا سيّما أنّه يفتقر إلى اقتصاد ذاتي يسند قوته العسكرية، ما يجعله معتمداً على الخارج، وعلى أنشطة غير قانونية، وما يجعل بيئته عرضةً أكثر للاختراق كما أظهرت الأحداث المؤلمة أخيراً. من غير الممكن تجاوز هذا الخلّل العميق عبر مراكمة صنوف الأسلحة والمعدات الحربية والصواريخ، فقد تبيّن أنّ هذا كلّه ضعيف التأثير بعد أن تراجعت المشروعية الوطنية العامّة للحزب، وخسر كثيراً من رصيده السياسي.
لم يكن دخول الحزب بقواته إلى سورية لمساندة نظام الأسد نقطةَ تحوّل، بل كان لحظة انكشاف التحوّل الذي عاناه الحزب بعد عام 2000. أحد مستشعرات هذا التحوّل المقارنة مثلاً بين التعامل الوطني للحزب مع أفراد جيش لبنان الجنوبي عقب التحرير (تعامل قوة مقاومة بأفق وطني)، وما أبداه من تعامل فئوي وبطشي مع السوريين منذ تدخّله لصالح نظام الأسد في 2013 (تعامل قوّة قمع)، الخطوة التي لم يخسر بسببها تعاطف قسم كبير من السوريين فقط، بل تحوّل هؤلاء إلى موقف شديد العداء من الحزب، يصل إلى حدود تمنّي هزيمته بيد إسرائيل. حين يكون هذا موقفَ قطاع واسع من السوريين واللبنانيين، وليس موقف قلّة يمكن للحزب أن يعتبرهم خونة ومتصهينين ... إلخ، يصبح السؤال عن انتماء الحزب إلى مفهوم حركات التحرّر مطروحاً.
لم يعد حزب الله يمثل ميلاً سياسياً عاماً في المجتمع الذي يتحرّك فيه، ولا يُشكّل نقطةَ التفاف داخلي
تبيّن أن الحزب، بعد أن قاد مقاومةً مثيرةً للإعجاب، أجبرت إسرائيل على الانسحاب من الجنوب، حوّل مبدأ المقاومة (التحرير) مبدأَ ردعٍ (الحماية)، فتحوّل الحزب من النشاط المقاوم إلى ما يشبه سباق تسلّح، ومن النشاط التحريري إلى المناوشات وفق "قواعد اشتباك". وكان هذا التحوّل سقوطاً في فخٍّ، أو دخولاً في نفقٍ لا ضوء في نهايته، بسبب الفارق التقني والمادّي الهائل لصالح إسرائيل، الذي يزيده الزمن هولاً، ليس فقط لأنّ التقدّم التقني في الجانب المعادي يزداد بسرعة أكبر ممّا هو لدى الحزب، بل أيضاً لأنّ الزمن يراكم المزيد من التراجع السياسي للحزب، وما يجرّ ذلك من تراجع في الهيبة، ومن ضعف في المناعة تجاه الاختراقات. الحقّ أنّ الاختراقات الرهيبة التي شهدناها أخيراً مُؤشّر صريح على تراجع مكانة الحزب، حتّى لدى عناصره.
التحوّل من المقاومة إلى الردع جعل الحزب قوّةً راكدةً عسكرياً، ومحافظةً سياسياً، وهو ما يتنافى مع مفهوم حركات المقاومة. وقد أعطى هذا التحوّل أرضيةً ثابتةً للتساؤل عن معنى وجود الحزب أصلاً، طالما تحوّلت وظيفته وظيفةً تقليديةً للجيوش النظامية، وهي الحماية. الواقع أنّ الحزب بعد عام 2000، اعتمد سياسياً على رصيده المقاوم كي يُؤسّس سلطةً لا يعترض عليها سوى "الخونة"، واعتمد عسكرياً على قوّة منظّمة كبيرة باتت بعد التحرير مُغرِيةً لممارسة السلطة، على أنّ هذه القوّة صارت، بعد أن أنجزت تحرير الجنوب، عبئاً على محيطها أكثر ممّا هي حامية له، وعبئاً على لبنان حين اختارت، لأسباب غير خافية، أن تبقى مستقلّةً عن الدولة اللبنانية.