تداعيات ما بعد السفر

28 أكتوبر 2024

(وجيه نحلة)

+ الخط -

رغم ما ينطوي عليه السفر من متعة ودهشة واكتشاف وتجديد، يظلّ تجربةً روحيةً عميقةً إذا ما أتيحت لنا خلاله فرصةُ التأمّل بالأشياء من حولنا، ومواجهة ذواتنا المنهمكة باليومي والمعتاد والمتكرّر، فحين نغادر أماكننا وأحبّتنا في إجازة طويلة نسبياً، يتسنّى لنا النظر إليهم من بعيد، وندرك مدى أهمّيتهم في حياتنا سنداً وملاذاً وعزاءً، ونقدّر أكثر المكان الذي نتذمّر من روتينه في العادة، ونسلّم بأن لدينا كثيراً ممّا يستحقّ الامتنان، غير أننا في غمرة الاعتياد نغفل عمّا حبتنا به الحياة من عطايا، ونواصل الشكوى والامتعاض.
ندرك ذلك كلّه حال هبوط الطائرة في وجهتنا التي قصدناها هروباً من ضغوط كثيرة، نتوهّم أننا بمُجرَّد ابتعادنا في الجغرافيا قد نتخفّف من وقعها الثقيل، غير أن المواطن العربي المحكوم باليأس في اللحظة الراهنة لا يملك مثل هذا الترف، حتى لو سافر إلى آخر الدنيا، فإنه يتأبّط همومه وأحزانه وأساه على أوطان حزينة ممزّقة مستباحة مستهدفة، يَحيق بها الموت والخسارات والدمار والخذلان والخيبة من كلّ صوب.
انتابتني مشاعرُ متضاربةٌ في أثناء زيارتي إيطاليا أخيراً، بعد غياب سنوات طويلة، وبمقدار فرحتي بلقاء صديقة إيطالية قديمة، هي بمثابة ابنة لي، غير أن الغضب من عدم اكتراث الغرب بما يدور من أهوال لازمني طوال الوقت.
استقبلتني ليديا بكلّ الحُبّ الممكن، وهي التي تتعاطف بشكل مطلق مع مأساة أهل غزّة وهم يواجهون الموت عزّلاً من مقومات الحياة كلّها، وقد تخلّى العالم بأسره عنهم وصمّ أذنيه عن عذاباتهم.
تسكّعنا في أزقة نابولي العتيقة، التي ذكّرتني بحارات ضاحية وادي السير (في عمّان) وأزقته. اصطحبتني إلى أماكن يجهلها السياح في روما، تلك المدينة المُتحَف الساحرة المعجوقة والصاخبة في مدار الساعة. استأنفنا حواراتنا التي بدأت في عمّان قبل سنين طوال عن الحياة والموت والعلاقات الإنسانية المشوّهة، وعن غياب الحُبّ وحالة الغُربة التي يعيشها الإنسان المعاصر في كلّ بقعة من هذا الكون غير الفسيح، وفي كلّ مرّة كان حديث غزّة يطغى على كلّ شيء، لأنّها الوجع والجرح العصي على الالتئام، غير أن ليديا تظلّ الاستثناء، فالإيطاليون منهمكون بقضاياهم وظروف حياتهم الصعبة، حيث الغلاء الفاحش والبطالة وتراجع مستوى الخدمات ومشكلات الهجرة غير الشرعية، التي تشكّل صداعاً مزمناً لهم، ما قد يُفسّر حالة العدائية لدى بعض المتعصّبين الطليان تجاه المهاجرين.
سألت أحدهم في حوارٍ عابرٍ عن سبب كراهيته التي لم يخفها أمامي تجاه العرب، قال: "لأنهم أصل البلاء والتطرّف والإرهاب. إنهم سبب الفوضى والسرقات وترويج المخدّرات في روما". وأضاف أنه يشعر بالحزن على "إسرائيل المسكينة" وهي تواجههم نيابة عن الغرب، وتحدّ من خطرهم على العالم المتحضّر (!). حاولت قدر المستطاع (بلا جدوى) توضيح الصورة، وعمق المأساة التي يعيش الشعب الفلسطيني في ظلّها، وعدت به إلى الماضي غير البعيد، وشرحت له ملابسات إنشاء هذا الكيان المغتصب المجرم، ودور الغرب المشبوه في دعم عصاباته، غير أنه ظلّ متشبثاً برأيه الذي يعكس الرأي العام، ليس في إيطاليا فحسب، بل في الغرب كلّه.
أتيح لي الاطلاع على الواقع المزري الذي يعيشه المهاجر، الفلسطيني والعراقي والسوري والمغربي والتونسي والجزائري، الهارب من الموت والحاجة والفاقة إلى ذلّ الغربة والمطاردة، والتهديد بالترحيل سيفاً مُسلطاً على لقمة عيشه التي يحصل عليها بشقّ النفس. رغم ذلك كلّه لم يخلُ الأمر من بهجة عارمة غمرت قلبي حين شاهدت في قلب نابولي علمَ فلسطين مرفرفاً على واجهة أحد البيوت، شاهداً لا يمكن تجاهله على الحقّ، وشمسه التي لن تغيب حتى لو كره المجرمون.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.