رجل صعب المعشر "دقّة قديمة"
خدعني موقع الأرصاد الجوية المعتمد في الأردن، فلم تهطل الأمطار بغزارة، ولم تنخفض درجات الحرارة، ولم تفض السيول، ولم تطبخ الأمهات شوربة العدس، واتضح أن الجو ليس غائماً، لا جزئيّاً ولا كليّاً، بل تتربّع الشمس كبد السماء بكل جسارة، ما يعني أنه يجب ضمّ جماعة الرصد الجوي الذين يتحدّثون بثقة بالغة إلى قائمة غير الجديرين بالثقة من مؤسّسات وأفراد التي أعددتُها أخيراً، كي أتجنب مستقبلاً تصديقهم أو أخذهم على محمل الجدّ.
تتقدّم هذه القائمة هيئة الامم المتحدة، فالأمم ليست متّحدة من أصله، بل هي نموذج للتمزّق والعداوة والتمييز العنصري والتعامل الطبقي، وهي لا تلتزم بمبادئها المعلنة من تحقيق السلام والعدالة والاحترام وحقوق الإنسان والتضامن، وغيرها من الشعارات الجذّابة الكاذبة، كذلك تكيل بمائة مكيال، وتنحاز في النتيجة إلى منطق القوة، وتقف مكتوفة الأيدي أمام البطش والإجرام الذي يتعرّض له غير البيض في هذا العالم الجائر. وتحتل الحكومات، على اختلاف مسمّياتها، المرتبة الثانية في قائمتي، لأنها، في العادة، تقول ما لا تفعل. وتأتي بعض وسائل الإعلام التي تدّعي الاستقلالية في المرتبة الثالثة، من حيث الكذب وتزييف الحقائق وغسل الأدمغة، والتأثير على الرأي العام، بما يتناسب وأجنداتها الخفية. ويحتل بقّال الحي المرتبة الرابعه باقتدار فهو يتلاعب بالأسعار على هواه من دون حسيب أو رقيب.
تتنوّع قائمتي، لتشمل حارس البناية التي أقطن فيها، لا ينظف السيارة جيداً، بل يمسحها بخرقة قذرة، ويكتفي برفع المسّاحات دليلاً غير دامغ على أدائه المهمة التي يتقاضى عليها راتباً شهرياً. أما الجزّار فأستطيع منحه، بدون تردّد، درجة عدم الشرف بامتياز. يحاول إقناعي بأن اللحم بلدي من "نصّ مراعينا، ويغفل أحياناً عن نزع الختْم الأزرق الذي يؤكد أن الذبيحة مستوردة من الخارج. حتى الصراف يتلاعب في أسعار تحويل العملة، وقد سرق مني مبلغاً ليس قليلاً معتمداً على جهلي في عالم العملات الصعبة. حين راجعته، أنكر عملية الاحتيال، وأخذني في رحلة معقّدة عبر الأرقام، ما أثار ضجري، فخرجتُ مستسلماً، بعد أن هدّدتُه بتقديم شكوى ضدّه، غير أنني لم أفعل، لأنني شخصٌ سلبي، أميل إلى الخجل قليلاً، ما يجعلني عاجزاً عن المواجهة.
لم تنته القائمة بعد، فهناك المواسرجي والكهربجي وشركات الاتصال وشركة الكهرباء. كلهم يكذبون ويغشّون بلا ذمة أو ضمير. جزء من ثقافة الاحتيال التي باتت سائدةً في زمن تخلّى الناس فيه عن قيم الصدق والأمانة والنزاهة والشرف، ما يجعل المواطن تحت وطأة الإحساس بالريبة وعدم الأمان في تعامله اليومي.
مع ذلك، يهون هذا كله أمام مظاهر الكذب والرياء والنفاق على مستوى العلاقات الإنسانية. الكل يكذب على الكل، زملاء العمل يكيدون في الخفاء، ثم يستقبل بعضهم بعضاً بالأحضان والقبلات الممجوجة، الأصدقاء يستغيبون ثم يعبّرون عن أشواقهم.
قلت لنفسي: "وأنا ما لي، دعهم في غيّهم يعمهون. المهم أن أحصّن نفسي، وأتمسّك بقيمي ومبادئي إنساناً مستقيماً صادقاً، لا يكذب ولا يجامل ولا ينافق، يعبر عن مواقفه وآرائه بجلافة، من وجهة نظر بعضهم، فيصنّفونني كائناً نكداً صعب المعشر، لأني أفتقر إلى ما يسمّونها مهارات اجتماعية. وأصنّف منهم رجلاً حاد الطباع، "دقّة قديمة"، غير قادر على مواكبة متطلبات العصر من مرونه ولباقة وقدرة على التكيّف وقبول الآخر، ليست لدي أي مشكلة في قبول الآخر من حيث المبدأ. لكني أجد صعوبة بالغة في التعاطي مع النماذج المزيّفة والمخادعة. فكّرت لحظة في تمزيق قائمتي السوداء، غير أنها ما زالت تطول وتتمدّد لتطغى على الحياة بكلّ تفاصيلها.