تركيا... تجريم العنصرية مهمّة عاجلة
مع أنّ ما حدث في ولاية قيصري (وسط تركيا) في حقّ لاجئين سوريين لم يكن مفاجئاً، إذ سبقته أحداث مُماثلة، إلا أنّ مشهد التنكيل الاستعراضي بهم وإحراق ممتلكاتهم بدا صادماً، وفي وقت لا تشهد فيه البلاد أجواء انتخابيةً حيث ترتفع وتيرة التحريض في تلك الأجواء، ما أثار الريبة إزاء الأهداف الكامنة في هذا التصعيد ضدّ الكتلة البشرية التي باتت تُعرف بالحلقة الأضعف. وزاد الأمر غرابة أنّ الأحزاب، وبالذات المُعارِضة منها، قد التزمت الصمت ثلاثة أيّام في الأقلّ، حيال ما جرى، خلافاً لما جرت عليه "العادة" في السابق. وقد لقي هذا الحدث تفاعلاً في الشمال السوري، الذي تبسط فيه المؤسّسات التركية سلطتها، إذ ثارت موجة احتجاجات غير مسبوقة من الأهالي على ما جرى لأبناء شعبهم في الداخل التركي، وقد سقط سبع ضحايا من المُحتجّين، ويُذكر أنّ مناطق الشمال شهدت أخيراً توتّراً شعبياً نتيجة الإقدام على فتح معبر تجاري مع مناطق يسيطر عليها النظام، وما تلا ذلك من تصريحات تركية تدعو للإسراع بالتطبيع مع دمشق.
غير أنّ خلفيات ما جرى لا تقتصر على ما تقدّم، ففي أنقرة تُنبِئ تصريحات مسؤولين ومنابر إعلامية بأنّ هناك أطرافاً قد تكون أسهمت في إشعال النيران وشحن النفوس في ولاية قيصري. ففيما أُوقِف 474 شخصاً على خلفية ما حدث، تبيّن أنّ أكثر من نصف هؤلاء هم من البلطجية والخارجين عن القانون، فكيف حدث إن اتفق نحو 285 شخصاً من هؤلاء على القيام بما قاموا به من اعتداء جماعي منظّم؟ ... هنا تشير الاتهامات إلى أطراف خارجية تتراوح بين القوى الكردية المسلّحة في سورية وبقايا تنظيم فتح الله غولن، وحتّى الطرف الإيراني، الذي يقيم علاقات مع الإدارة الذاتية الكردية. إذ للمفارقة، فإنّ القوى الكردية المُسلّحة ممثّلة بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في الخصوص، تخشى أن يُؤدّي تقاربٌ رسميٌّ بين أنقرة ودمشق إلى اتفاق الطرفَين على تضييق الخناق على مناطق الإدارة الذاتية. كما تخشى طهران أن يُؤدّي أيّ تقارب بين أنقرة ودمشق إلى تفاعلات سياسية من شأنها تقليص الوجود الإيراني في الأراضي السورية. هذا، رغم أنّ طهران سبق أن بذلت جهوداً للتقريب بين أنقرة ودمشق، علماً أنّ التوتّرات شملت مدن أنطاكية، وغازي عنتاب، وقونيا، وبورصة، وإسطنبول، وتحت عنوان واحد؛ توجيه التهديدات للاجئين وإلحاق كلّ ما يتيسّر من أذى في حقّهم.
وقد أبدت السلطات حزماً في التعامل مع هذه التطوّرات، وذلك مع توقيف مئات من المشتبه فيهم، وشمل ذلك مديري مواقع إلكترونية دأبت على التحريض ضدّ اللاجئين عموماً، والسوريين منهم في الأخص. كما أصدرت وزارتا الدفاع والخارجية بيانات حازمة في هذا الشأن، وفعلت كذلك إدارة المخابرات التركية بعد استشعار مخاطر هذا التصعيد على الأمن القومي للبلاد، وعلى النسيج الاجتماعي، وعلى صورة البلاد في الخارج، وبخاصّة أنّ هذه التوتّرات الخطيرة وقعت في ذروة الموسم السياحي، وليس في ذروة استحقاق انتخابي. وقد كان من تداعيات اعتداءات قيصري أن خرج رجل تركي يُهدّد بسكّين سيّاحاً سعوديين في مقهى في إسطنبول.
محاذير انضمام الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا إلى موجة التطرّف ضدّ اللاجئين تغدو كبيرة مع قوى سياسية بميول غربية وأخرى بنزعة قومية
والخشية حالياً أن تُؤسّس هذه التعدّيات الجسيمة موجة من توتّرات لاحقة، ما يستدعي معالجة هذه المسألة بصورة أكثر نجاعة، فلا تقتصر على المعالجة الأمنية (مع الأهمية الفائقة لهذه المعالجة)، بل تتعدّى ذلك، وكما سبق أن دعا كاتب هذه السطور في مقالات سابقة، إلى معالجة قانونية وسياسية تذهب إلى تجريم العنصرية وتطويقها وتجفيفها، وحظر خطابات الكراهية، لا أن يجري اعتبارها مُجرّد فِكَرٍ خاطئة أو سلوكيات غير مُستحبَّة، أو أن يعتبرها آخرون تكريساً مزعوماً لحرّية التعبير وتعددية الآراء. وفي واقع الحال، إنّ التأخّر عن القيام بهذه المعالجة الشاملة قد وفّر بيئة في السنوات العشر الأخيرة لازدهار أفكار التطرّف. وإذا أخذ المرء في الاعتبار أنّ التطرّف ضدّ الأجانب واللاجئين يتفشّى في أوروبا وأميركا، ويهدّد اللاجئين الأتراك في ألمانيا، وبدرجة أقلّ في دول أوروبية أخرى، وأنّ أحزاب اليمين المُتطرّف تحقّق تقدّماً هنا وهناك؛ في الغرب وفي البرلمان الأوروبي الجامع، تغدو محاذير انضمام الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا إلى هذه الموجة كبيرة، وأكبر من أيّ وقت مضى، خاصّة من قوى سياسية ذات ميول غربية جامحة، وقوى أخرى ذات نزعة قومية، ليقود التماهي مع الغرب، وأوروبا بالذات، إلى إنتاج نسخة تركية من اليمين الشعبوي المُتطرّف، كارهة للاجئين ولكلّ ما يمثّلونه، مع انتظار قطف الثمرة في الداخل عبر تأجيج مشاعر الجمهور العريض بأمل اقتناص مزيد من الأصوات في الانتخابات العامة المُقبلة، وقد كان لافتاً أنّه سبقت الاضطرابات الخطيرة أخيراً، دعوات حزبية إلى إجراء انتخابات مُبكّرة، صدرت خصوصاً من حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة.
وبينما يزداد الوزن السياسي لتركيا في المعادلات الإقليمية والدولية بالاستناد إلى تقدّم صناعي مطرد تشهده البلاد، يشمل الصناعات الدفاعية، وإلى نهج سياسي متوازن ومستقلّ عن القوى الدولية الكبرى، مع تزايد الاستثمارات المباشرة في بلاد الأناضول من دول شتّى في الشرق والغرب، فإنّ من شأن التوتّرات الدورية ضدّ اللاجئين وما تثيره من استقطابات اجتماعية حادّة، أن تنعكس سلباً في النسيج الاجتماعي والنظام العام، وهذه اعتبارات إضافية تُملي البدء بالتقدّم نحو معالجة شاملة ومنهجية، تضع حدّاً نهائياً للاستثمار السياسي السلبي في موضوع اللاجئين، مع أهمية تطمين اللاجئين ومن خلفهم شعبهم بأنّ التقارب مع دمشق إذا تم لن يكون على حسابهم، كما لن يكون على حساب المصالح التركية العليا، بل لخدمة المصالح الفعلية للشعبَين الجارَين. وفي الواقع صدرت إشارات إيجابية في هذا الاتجاه عن كبار المسؤولين الأتراك، وهو ما يستلزم اتباع سياسات تخدم هذه التوجّهات، ومن ذلك جبر الضرر الذي لحق باللاجئين جرّاءَ التعدّيات عليهم، وعلى ممتلكاتهم وأرزاقهم.