تسع خطوات لتصفية المعارضة التونسية
انتشرت نكتةٌ في تونس في ثمانينيات القرن الماضي. وجد ثلاثة أشخاص أنفسهم في زنزانة، فبادر أحدهم بالسؤال عن التهمة الموجّهة إلى زميليه، فأجابه أحدهما "أنا متهم بمعارضتي محمد المزالي" الذي كان وزيرا أول. أما الثاني فبادر بالقول "حوكمتُ لأني كنت مع محمد المزالي"، فالتفت الاثنان إلى السائل "وأنت ما هي تهمتك؟". أجاب "أنا محمد المزالي"!
تجاوز عدد الشبكات التي جرى الإعلان عنها الخمس، وهي مجموعات تضم شخصياتٍ تونسية متهمة بالتآمر على أمن الدولة. تهمة ثقيلة وخطيرة لم تُستعمل بكثافة في تونس مثلما استعملت منذ 25 يوليو/ تموز 2022. أما المتّهمون فهم موزّعون على مختلف العائلات السياسية تقريبا، بمن فيهم بعض أنصار الرئيس قيس سعيّد. والغريب أن عدد المعتقلين بلغ العشرات من دون الكشف عن الأدلة الكافية لإدانتهم، رغم أن بعضهم يقبعون في السجن منذ أشهر ينتظرون إكمال التحقيق معهم. بل الأغرب أن كثيرين منهم متخاصمون، لهم حسابات قديمة في ما بينهم، ومنهم من لم يسبق أن جمَعهم نشاط مشترك، أو أفكار ومواقف موحّدة. مع ذلك اعتُبروا أمنيا أنهم "فريق متآمر ومشارك في وضع خطط تهدف إلى زعزعة الدولة وقلب النظام".
يهيمن الفكر التآمري على الأجواء في تونس، وبدأ يخنق جزءا واسعا من الطبقة السياسية، خصوصا الذين اشتركوا في مختلف الحكومات السابقة. كل من تحمّل مسؤولية خلال العشرية الماضية هو متّهم بالضرورة، وعليه أن ينتظر دوره للمحاسبة القضائية، وليس من حقّه أن يشعر بالاطمئنان، فهو متّهم حتى يأتي ما يخالف ذلك.
لا حديث في تونس إلا عن الاعتقالات السابقة وأخرى لاحقة، لكن الأكيد أن وراء ذلك خطّة محكمة للتنكيل بالنخبة السياسية، خصوصا تلك المصرّة على رفض المرحلة الحالية، وذلك بالاعتماد على وسائل متعدّدة.
أولا: الاعتقال، والإسراع في توجيه التهمة قبل التوصل إلى الدليل. ثانيا: توجيه أكثر من تهمة إلى بعضٍ منهم، فإن قضى حكما لحقّه حكم قضائي جديد، فزعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي يواجه خمس قضايا، وكل المؤشّرات تدلّ على أنه سيقضي مدة طويلة في السجن، رغم تقدّمه في السن. ثالثا: وضع "المشتبه بهم" ضمن قوائم الممنوعين من السفر. رابعا: إخضاعهم للتنّصت على هواتفهم، وهو ما ساعد على توسيع دائرة المعتقلين. خامسا: الضغط على محاميهم، بما في ذلك احتمال تحويلهم بدورهم إلى متهمين. سادسا: الضغط على القضاة المكلفين بالنظر في هذه القضايا، وقد يصل الأمر إلى اعتبارهم متواطئين، إذا كانت أحكامهم لا ترتقي إلى مستوى "التهم" الموجّهة إليهم. سابعا: عدم الاهتمام بضغوط الجمعيات الحقوقية، والهيئات الدولية، والحكومات الغربية، فلأول مرّة يتعطّل العامل الخارجي، ويفقد تأثيره في الداخل. ثامنا: الاستخفاف بشرعية إضرابات الجوع التي يلجأ إليها عادة السجين السياسي في العالم، لكي يدافع عن نفسه للضغط على حكوماته. فقدت هذه الوسيلة معناها وأهميّتها حاليا. يمكن أن يموت السجين ولا تهتم به الرئاسة. تاسعا: غلق مقرّات بعض الأحزاب، وتهميش التجمّعات الاحتجاجية التي تراجعت أهميتها كثيرا.
أوجدت كل هذه الوسائل وغيرها مناخا يدفع نحو اليأس الجماعي والتصحّر السياسي. وعندما يُسأل أنصار الرئيس عمّا يجري، يجيبون جواب وزير الخارجية "تونس دولة قانون، ولا أحد فوق تشريعات البلاد، ولا يحقّ لأي كان أن يفرض علينا قوانينه". .. حالة غريبة واستثنائية، لا تشبه ما يحصل في الدول الاستبدادية العسكرية. لا اختطافات، ولا سحل في الشوارع، ولا تعذيب بشعا داخل مراكز الإيقاف، ولا إعدامات بالجملة. مع ذلك، تموت المعارضة وبعض الأصوات لا تزال مسموعة، مثل المحامي عياشي الهمامي الذي لخّص الوضع في قوله "لا توجد مؤامرة على أمن الدولة، وإنما هي مؤامرة قيس سعيّد على معارضيه"... مع ذلك الأرض تدور!