تسع سنوات على مجزرة الغوطة ونظام الأسد بلا عقاب
مرّت تسع سنوات على مجزرة السلاح الكيميائي، التي ارتكبها نظام الأسد في بحق المدنيين المحاصرين في غوطة دمشق الشرقية في 21 أغسطس/ آب 2013، وراح ضحيّتها أكثر من 1400 شخص، ولم يُحاسب أحد الجناة من نظام الأسد عليها، بل حوّلها النظام إلى جريمةٍ مهّدت لإضافة جرائم أخرى إلى سجله الحافل بالمجازر والجرائم التي ارتكبها بحقّ المدنيين السوريين. وهي جريمة كبرى ارتكبها النظام بحق مدنيين سوريين، ويصعب أن يتجاوزها الزمن، لأنها جريمة لا تسقط بالتقادم، وما تزال حيّة في ذاكرة السوريين بجميع تفاصيلها، ولن يتنازلوا عن حقهم في محاسبة الجناة في نظام الأسد، إنصافاً للضحايا وذويهم. ولكن، على الرغم من أن الصور الفظيعة لأطفال الغوطة الصرعى، وأكوام جثث الضحايا والمصابين بحالات اختناق، قد أثارت سخط أصحاب الضمائر الحيّة في العالم كله، إلا أنها لم تكن كافية لكي تحرّك يد العدالة لتطاول المجرمين، الأمر الذي أثار أكثر من تساؤل بشأن المغزى والغاية من قتل سوريين بالأسلحة الكيميائية، مع أنهم كانوا محاصرين وجوعى، ومدنيين عزّلاً، وكشف عن مدى الانحطاط والتوحش اللذين بلغهما نظام الأسد. إضافة إلى أن الجريمة أماطت اللثام عن مستوى الانحدار الذي بلغه حلفاؤه في النظامين الروسي والإيراني اللذيْن شاركا النظام في إنكاره ارتكاب الجريمة، وفعلوا كل شيء كي يفلت الأسد من نيْل العقاب، وقدّموا له كل أنواع الدعم والإسناد لمنعه من السقوط، وباتوا يمثلون نمطاً فريداً في العالم لصفاقة أنظمة التوحش واللا إنسانية.
لقد طرحت مجزرة الغوطة التي ارتكبها نظام الأسد أسئلة عن النهج السياسي المنحط والمهيمن الذي تتبعه الأنظمة الديكتاتورية في عالم اليوم، تلك التي اعتادت على شنّ الحروب البشعة والبربرية ضد شعوبها، وإيصالها إلى ذروةٍ قصوى من العذاب الإنساني المصحوب بالكوارث والدمار والخرائب.
ما يزال نهج الافلات من العقاب سارياً، على الرغم من بيانات أوروبية توعّدت مرتكبي الجرائم في سورية بعدم الإفلات
وشكلت جرائم الأسلحة الكيمائية لنظام الأسد اختباراً لمدى جدّية أصحاب الدعوات إلى تحقيق العدالة الدولية، حيث شكّل إفلات النظام من العقاب إهانة لقوى المجتمع الدولي، وخصوصاً دول الغرب، كونها لم تقم بأي فعل يتناسب مع هول الجريمة وبشاعتها، بالرغم من أنها تجاوزت كل الحدود، وتخطّت الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، إذ تبيّن أنه كان مجرد تهديد لفظي، وأن غايته كانت تنحصر في نزع الأسلحة الكيمائية من نظام الأسد، وليس حماية السوريين منها، وذلك بعد أن اتّبعت إدارة أوباما نهجاً من المقايضة ودشّن نهج الإفلات من العقاب على الجريمة، حين عقد صفقة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قضت بتسليم النظام المجرم مخزونه من المواد الكيميائية، مقابل إفلات النظام من العقاب والمساءلة، الأمر الذي جعل الأخير يتمادى في ارتكاب جرائم أخرى ضد السوريين.
وما يزال نهج الافلات من العقاب سارياً، على الرغم من بيانات أوروبية توعّدت مرتكبي الجرائم في سورية بعدم الإفلات من العقاب الذي ينتظرهم، بوصفها مسألة إنصاف للضحايا، ومن اعتبار أن "مكافحة الإفلات من العقاب ليست مسألة مبدأ فحسب، بل هي أيضاً واجب أخلاقي وسياسي، ومسألة تتعلق بأمن المجتمع الدولي"، إذ إن أقصى ما قامت به دول الغرب التي تتعهد بالدفاع عن حقوق الإنسان هو مواصلة دعم لجنة تقصّي الحقائق الدولية، مع ترحيبها بجهود المحاكم في مختلف الدول الأوروبية "لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في سورية".
لعب الروس دوراً أساسياً في تشجيع نظام الأسد على الاستمرار في شنّ هجماته الكيميائية، وفي إفلاته من العقاب والمساءلة
والمحيّر في الأمر أن السنوات التي تلت مجزرة غوطة دمشق أظهرت، وبشكلٍ لا لبس فيه، أن نظام الأسد لم يسلّم كامل ترسانته من المواد الكيميائية بعد صفقة الكيميائي، بل استمر في شنّ هجمات كيميائية ضد المدنيين في المناطق المدنية الخارجة عن سيطرته، وكأنه اعتبر الصفقة بمثابة ضوء أخضر له كي يتمادى في هجماته. ولعب الروس دوراً أساسياً في تشجيع نظام الأسد على الاستمرار في شنّ هجماته الكيميائية، وفي إفلاته من العقاب والمساءلة، لكن مواقف دول الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، شجّعته على ارتكاب مزيد من الجرائم أيضاً، كما شجّعت الساسة الروس على التمادي في محاولاتهم التستر على كل جرائم النظام، وإطلاق العنان لآلتهم الدعائية والدبلوماسية من أجل إنكار ارتكابه تلك الجرائم، ولجأوا إلى التشكيك في حيادية لجان التحقيق ولجان تقصّي الحقائق، والتشكيك في مصداقية جميع التقارير الدولية والأممية، التي تدين نظام الأسد أو تشير إلى مسؤوليته عن الهجمات، فضلاً عن أنهم عمدوا إلى تلفيق رواياتٍ كاذبة.
في المقابل، اكتفت دول الغرب بالإشادة بالتقارير الدولية والأممية التي توثّق هجمات النظام الكيميائية، التي شنها باستخدام غاز الكلور على مدينة سراقب في 4 فبراير/ شباط 2018، وهجمات أخرى باستخدام غاز السارين على بلدة اللطامنة في 24 و30 مارس/ آذار 2017 وغاز الكلور في 25 مارس/ آذار 2017، وعلى خان شيخون في 4 إبريل/ نيسان 2017 وسوى ذلك.
ما تزال جرائم نظام الأسد برسم العدالة الدولية التي لا بد أن تطاول هذا النظام يوماً لمنع إفلات المجرمين من العقاب، إحقاقاً للحق
ولعل من نافل القول إن جرائم نظام الأسد بحق السوريين لا تنحصر في المجازر التي ارتكبها بهجمات بالأسلحة الكيميائية، بل تمتد إلى جرائم قتل ارتكبها بمختلف أنواع الأسلحة، وإلى التعذيب والتجويع حتى الموت، فضلاً عن الاغتصاب والتهجير القسري والاعتقالات، وجميعها جرائم موثّقة بالتقارير وبالصور، وخصوصاً الصور التي هرّبها "قيصر"، وتقرير "المسلخ البشري" عن سجن صيدنايا الذي أصدرته منظمة العفو الدولية عام 2017. إضافة إلى أن رئيس "اللجنة المستقلة من أجل العدالة الدولية والمحاسبة"، ستيفن راب، اعتبر أن الأدلة التي جمعتها اللجنة عن جرائم نظام الأسد تفوق التي توفرت للمدّعين خلال محاكمة النازيين أو محاكمة الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، وأن اللجنة تمكّنت من الحصول على ما يزيد على 900 ألف وثيقة هرّبت إليها. ومع ذلك كله، ما تزال جرائم نظام الأسد برسم العدالة الدولية التي لا بد أن تطاول هذا النظام يوماً لمنع إفلات المجرمين من العقاب، إحقاقاً للحق، وإنصافاً للضحايا وذويهم.