تشارلز الثالث وقيس سعيد الأول: ليس ملكي
ليست الدهشة من هذا الاهتمام المبالغ فيه بمراسم تشييع الملكة إليزابيث الثانية، في حدثٍ نادر لم يحصل منذ نحو ثلاثة أرباع القرن، ما يعني أنّ ثلاثة أجيال كاملة على موعد، لأول مرة، لمشاهدة طقوس جنائزية لملكة المملكة المتحدة.
من زاوية المشاهدة والفرجة، الاحتشاد طبيعي ومنطقي، عند جمهور مولع بالنادر والاستثنائي من الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية، تمامًا مثل التجمّع لمشاهدة ظاهرة الخسوف والكسوف، وحركة النيازك .. أما غير المنطقي فهو الاندماج المصطنع بالحدث، وخصوصًا من الشعوب الواقعة خارج مدار الظاهرة الانجليزية الفريدة، والتفاعل معه وكأنه مسألةٌ تخصّ هوية هذه الشعوب.
حتى داخل حدود المملكة نفسها، ثمّة أشخاص ومجموعات لم يروا أنّ هذه مناسبة تخصّهم، أو تمسّ عصب الهوية لديهم، فهناك من أظهر سخريةً مما يجري، وهناك من اعترض وعبّر عن احتجاجه على نحو صارخ، والغالبية العظمى رأت في المناسبة ظاهرةً من ظواهر الطبيعة شحيحة الحدوث، فيما قليلون بدوا في حالة حداد قومي حزين.
على أنه وسط ذلك كله، لم يتعرّض الساخر والمعترض والمحتج للعقوبة والاضطهاد، أو الاتهام بانعدام الوطنية، كما لم يكافأ الذين بالغوا في إبداء علامات الحزن والحداد، إذ بانتهاء المراسم عادت الحياة إلى دورتها الاعتيادية، وانتهى الكلام عن الملكة والملكية وتمّ استئناف الحديث المجتمعي الصاخب عن الشتاء القادم من دون أن يحمل معه حلولًا مطمئنة لأزمة الطاقة اللازمة للتدفئة، على وقع استمرار الحرب الروسية الغربية في الساحة الأوكرانية.
عقب الإعلان عن رحيل الملكة إليزابيث الثانية، بعد سبعين عامًا كاملة على العرش، والذهاب إلى الاحتفال بالملك الجديد، ابنها الأكبر تشارلز الثالث، ذي الاثنين وسبعين عامًا، لم يمر الحدث من دون محتجّين يرفعون لافتاتٍ تعلن الرفض للملك والملكية كلها، وفي اسكتلندا، كما في إنجلترا، جرى توقيف ناشطين، لا يصل عددهم إلى أصابع اليد الواحدة، لوقت قصير قبل إطلاق سراحهم، يتظاهرون رافعين شعارات مثل: ليس ملكي .. من الذي انتخبه؟
مرّ نبأ التظاهر والاحتجاج عاديًا، لا يثير دهشة أو غضب أو استنكار أحد، أما غير العادي وغير المقبول، والذي أثار الدهشة والاستياء والغضب، فهو إقدام الشرطة البريطانية على توقيف المحتجين ساعات محدودة، قبل أن تعود وتعتذر وتطلق سراحهم، إذ لم يمر ذلك كله من دون بياناتٍ غاضبةٍ من ناشطين وجهات معنية بحرية الرأي والتعبير، رأت في اعتقال مناهضين للنظام الملكي بعد وفاة الملكة أمرًا مقلقًا للغاية، كون الاعتراض والاحتجاج حقًا أساسيًا تجب حمايته.
تنشر "بي بي سي" البريطانية، شبه الرسمية، بتوّسع أنباء الغضب من توقيف المحتجّين المناهضين للملكية، وتنقل عن الرئيسة التنفيذية لمنظمة "مؤشّر الرقابة"، روث سميث، إن الاعتقالات "مقلقة للغاية" و"علينا الحذر من استخدام هذا الحدث، عن طريق المصادفة أو عن قصد، لتقويض حرية التعبير التي يتمتع بها مواطنو هذا البلد بأي شكل من الأشكال".
وفي السياق، تبرز تصريح مديرة منظمة "بيغ براذر ووتش"، سيلكي كارلو، إن على ضباط الشرطة "واجب حماية حق الناس في الاحتجاج بقدر ما عليهم واجب تسهيل حق الناس في التعبير عن دعمهم أو حزنهم أو احترامهم". كما تنشر عن مسؤولة السياسات والحملات بمنظمة ليبرتي، جودي بيك، إن "من دواعي القلق الشديد أن نرى الشرطة تفرض سلطاتها الواسعة بطريقة قاسية وعقابية". وأن "الاحتجاج ليس هدية من الدولة، إنه حق أساسي".
بدورها أوضحت شرطة العاصمة لندن أن أحد أفراد الجمهور طُلب منه الابتعاد من أمام البرلمان "من أجل تسهيل دخول المركبات وخروجها عبر البوابات"، لكن لم يُقبض عليه أو يُطلب منه مغادرة المنطقة الأوسع. وجاء في بيان صادر عن نائب مساعد مفوض شرطة العاصمة، ستيوارت كوندي، أنه: "يحقّ للجمهور تماما الاحتجاج، وقد أوضحنا ذلك لجميع الضباط المشاركين في عملية الشرطة غير العادية الجارية حاليا".
على ضوء ذلك كله، يبدو توغل مهاجم ليفربول، المصري محمد صلاح، في منطقة التعاطف المبالغ فيه، وانفراده بنعي الملكة بصيغة بها قدر كبير من الافتعال، مستفزًا لكثيرين، وخصوصًا من لاعب قادم من الريف المصري الذي سال دم كثير فيه نتيجة الاستعمار البريطاني القديم، إذ لم يخلُ الأمر من مزايدة حضارية مثيرة لسخرية الانجليز الأقحاح أنفسهم .. غير أن الأمر في النهاية يبقى خاضعًا لاختيارات الشخص، الذي يجب أن يتلقى ردود الفعل بصدرٍ رحب، سواء كانت صفيرًا مستنكرًا أو تصفيقًا من باب المجاملة.
تلك هي الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان الأساسية في التأييد أو الرفض. وعلى ضوء ذلك، يمكنك أن ترى في هذه السطور لغوًا عديم الفائدة، أو تراه غير ذلك، لكن بالتأكيد من المهم أن تنتقل ببصرك من بريطانيا إلى مصر أو تونس، وتتوقّف، مثلًا، عند ما يفعله "السلطان قيس سعيد" في المحتجّين على طريقته في حكم البلاد، وتقارن ما يجري مع قادة الأحزاب والحركات السياسية معارضي سياساته، وما فعلته السلطات البريطانية مع رافضين للملكية وللملك، من دون أن يواجِهوا اتهامات بالخيانة والعمالة والإرهاب والإضرار بمصالح الوطن العليا.
يمكنك كذلك أن تمدّ بصرك، أو خيالك، إلى مصر، وتسترجع ما جرى لآلاف البشر، اعترضوا على الانقلاب على الحكم المنتخب بالقوة، فذبحوا في مكان تظاهرهم وأضرمت النار في أجسادهم، أو ما حدث مع مواطنين رفعوا لافتةً تعترض على العبث بالدستور والقصّ واللصق فيه، بما يجعل الاستبداد حاكمًا مدى الحياة، هل ما زالوا على قيد الحياة؟ هل يعلم أحد أي السجون ابتلعتهم؟.
أزعم، والحال كذلك، أن لا غرابة في تعلّق أنظار العالم بأفول شمس ملكة حقيقية، رحلت في زمن يرتدي فيه عديد الصعاليك ثيابًا ملكية.