تعالوا إذن إلى حلّ السلطة الفلسطينية!
ليس الخبرُ أن 70% في قطاع غزّة و56% في الضفة الغربية يؤيّدون حلّ السلطة الفلسطينية، في استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية، مطالع يونيو/ حزيران الجاري، وإنما أنّ فلسطينيين كثيرين، ومنهم مثقّفون ومن أهل التعليم العالي، تلقّفوا هذا من الاستطلاع المهني الموثوق، وأشهروه حجّةً تسنُدُ وجاهة مناداتهم، منذ زمن، بحلّ السلطة، الفاسدة التي لا تؤدّي شيئاً غير التنسيق الأمني مع الاحتلال، بحسب ما يروْنها. وعندما يُخبرنا الاستطلاع أنّ 6% فقط يؤيّدون عودة السلطة برئاسة محمود عبّاس إلى الحكم في غزّة، وأن 25% مع سلطةٍ فلسطينية جديدة، برئيس وبرلمان وحكومة منتخبين، هناك، فإن هذا يعضُد ذلك القول بحلّ السلطة القائمة. أما إذا علمنا أن 72% يعتقدون أن حكومة محمّد مصطفى لن تنجَح في إنجاز إصلاحات، وأن 94% في الضفة الغربية يريدون استقالة عبّاس، و83% في غزّة معها (نسبتُهم أقلّ مما هي في الضفة!)، ولمّا قال 69% إنهم يعتقدون أنّ السلطة أصبحت عبئاً على الشعب الفلسطيني، فهذا كله سيُسعف المتحمّسين لحلّ السلطة بعُدّةٍ أشدّ مضاءً. ولمّا كان "المؤشّر العربي 2022"، وقد نشر نتائجَه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في فبراير/ شباط الماضي، قد أفاد بأن 8% فقط يثقون بالحكومة تماماً، و30% إلى حدٍّ ما، و26% لا يثقون بها على الإطلاق و27% إلى حدّ ما، وبأن ثقة الفلسطينيين بالشرطة هي الأقل عربيّاً، واللبنانيون وحدهم يتفوّقون عليهم بعدم ثقتهم بالجهاز القضائي، وأن 15% فقط يثقون تماماً بالمحاكم الشرعية، فهذا كله يسلّح المطالبين بحلّ السلطة بذخيرةٍ مُضاعفة.
تتزاحم الأسباب التي تفسّر سخط الفلسطينيين في الضفّة وغزّة على السلطة الوطنية، وليس من مشاغل المقالة هاتِه الإتيان على أيٍّ منها، وإنما شاغلها السؤالان: ما إذا كان يحسُن رفعُ الصوت أعلى في المناداة بحلّ هذه السلطة، ما دامت صورتُها بين ناسِها على السوء أعلاه؟ وما إذا كان وجيهاً، وفي الصالح العام، الاعتداد بهذا السخط، المعبَّر عنه في مسوحاتٍ دوريةٍ للرأي العام، في المضيّ باتجاه هذا الحلّ، والارتكاز إليه حلّاً لواحدةٍ من إشكالات الراهن الفلسطيني العويص؟. ولأن التطويل والإسهاب مبغوضان عندنا، نحن أهل الصحافة، يُسرَّع هنا بالإجابة بأن هذا ليس وجيهاً وذاك ليس حسناً، فحلّ السلطة لا يمكن أن يُعدّ حلّاً لأيِّ إشكالٍ في راهن الفلسطينيين. ليس فقط لأن أحداً ممن يشهرون وجوب إنهاء هذه السلطة لا يُسعفنا بالجهاز المؤسّساتي البديل عنها، والمفترض فيه أن ينظّم امتحانات الثانوية العامة، ويهيئ عقود الزواج والطلاق، ويحبس المُدانين بجرائم القتل وعدم سداد الكمبيالات، ويُصدِر شهادات الميلاد ورخص السواقة، ويطلب عوْن منظمّة الصحّة العالمية لتطويق داء السحايا، وإنما أيضاً لأن أحداً من أولئك لا يُرشدنا إلى الكيفيّات التي سيجري فيها حلّ السلطة، أي تفكيك الشبكات والمصالح والإدارات والأجهزة والمرافق التي ينتظم فيها آلاف الموظّفين والعاملين ورجال الأمن، فليست السلطة المتحدّث عنها مصنعاً للموبيليا خاسراً، ولا جمعيةً لمحاربة التدخين، ولا نقابةً للطهاة.
ولكن، هل يعني هذا عدم الاكتراث برأيٍ عامٍّ فلسطينيٍّ عريض، لا ينفكّ يرمي السلطة بشديد المؤاخذات؟ وهل يعني التسليمَ بالحال الذي نرى، واحتسابه قدراً مكتوباً، إذ يعصى الحلّ المشتهى بالحلّ؟ لا، إنما هو الذهابُ إلى الأساسي، والذي يُستطاب الكسلُ في النقاش بصدَدِه. وأول القول ومنتهاه هنا إنه ليس من منطق العقل ولا منطوقه أن يجري الطلب من إسرائيل أن تتولّى الاحتلال الكامل، بالمسؤولية العامة عن فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفيما ليس للحكم في الأردن مطمعٌ في أن تعود وزاراتُه وإداراتُه لتسيير شؤون "مواطنيه" في نابلس والخليل ورام الله (وغيرها)، ويُنفِق على طبابتهم وتعليمهم وبلديّاتهم و... إلخ، وفيما الحكمُ في مصر ليس في وارد أن يتولّى شؤون الغزّيين في قطاعهم، وفيما لو أشهر عبّاس (أو غيرُه) حلّ السلطة (ووضْع الاحتلال أمام مسؤوليّاته، كما يستسهل بعضُ أصحابنا القول!)، فإن هذا كله، وكثيراً غيره، يُعيدنا إلى البديهي، وموجزُه إن على الفلسطينيين أن ينظّفوا دارهم، وأن يثبتوا للخلائق في الأرض أنهم أهلٌ لبناء مؤسّسات تسييرٍ وإدارة، وقادرون على ابتكار موارد لتنظيم شؤونهم، ولو تحت احتلالٍ يستهدفهم ... هذا بالغُ الصعوبة، والمشاقّ فيه وفيرة، والتحدّيات فيه كثيرة، لكنه موضوعُ النقاش الأجدى، وليس استسهال الكلام عن حلّ السلطة حلّاً.