تنازع الشرعيات يجتاح الخريطة العربية
في فلسطين المحتلة انقسام بين غزة ورام الله. وفي ليبيا انقسام بين طرابلس وبنغازي فضلًا عن أطراف أخرى مسلحة. وفي اليمن تنازع بين الحكومة اليمنية والحوثيين، بالإضافة إلى الحراك الجنوبي. وفي تونس تنازع بين الرئيس والبرلمان المنتخب، وفي لبنان لعبة شد حبل مستمرة سنوات بين الحكومة والتحالف الموالي لإيران. وفي العراق تنازع بين الحكومة والمليشيات التي تأتمر بأمر طهران. وفي سورية خريطة ممزقة في الشمال والجنوب والشرق، بين سلطة ومعارضة ومليشيات انفصالية كردية. وفي السودان دعوات إلى الانفصال وصراع مدني عسكري. أما الصومال فبلد لم يتحد منذ مطلع التسعينيات. والمغرب يحاول الحفاظ على وحدته الترابية منذ عقود. والجزائر تشهد للمرة الأولى دعوة انفصالية عالية الصوت، مع استمرار جمرة الحراك الثوري تحت الرماد. ..
وهكذا تعتمل في الخريطة العربية، ربما باستثناء منطقة الخليج وحدها، عوامل صراع أهلي تتفاوت حدّتها من دولة إلى أخرى، لكنها تزداد تجذّراً، وتلعب قوى إقليمية أدوارًا خطيرة في صنع الانشقاق أو تعميقه أو استدامته. أما القوى الدولية، فتجد فيه فرصة ممتازة لابتزاز الجميع.
تنازع الشرعيات ثمرة حتمية لتنازع المرجعيات
وتنازع الشرعيات الدستورية أو السياسية، أيًا كانت جهة الصراع التي يخفيها، أيدولوجيةً كانت أو طائفية أو قومية أو غيرها، يهدّد دائمًا بتصدّع مؤسسات الدولة التي يحدث فيها، فالسياسة تحتمل وجهات النظر والمواءمات، أما المسؤوليات، سيادية كانت أو تنفيذية، فتفسدها المواءمات. ومع تطاول أمد الانشقاقات، تتجمع حول كل جانبٍ من جانبي الانقسام قوى تصبح مصالحها مرتبطةً باستمرار الانقسام. ومع الوقت، تتراكم الأدبيات التي قد تشكل سردية كاملة مقابل سردية مناقضة، وهنا قد يستعصي الحل. ورهان بعضهم على أن هذا الطرف أو ذاك يدير أيًا من هذه الصراعات بـ"الريموت كونترول". وبالتالي، يستطيع أن ينهي دور الجانب الذي يتحكّم فيه في الانقسام، يتجاهل حقيقة أن القاعدة العريضة لهذه الظواهر، عامة الناس، تتراكم في وعي كل منهم عوامل تتسبّب في استمرار الصراع. وقد تشهد السنوات القليلة المقبلة تطورات درامية في عدد من الدول العربية، تجعل استعادة وحدة بعض الدول القُطرية هدفًا عصيًا على التحقيق. وخريطة عربية أكثر انقسامًا يحمل في طياته مخاطر كبيرة على المستقبل. وعلى سبيل المثال، تصوّرت قوى إقليمية ودولية أن انفصال جنوب السودان سيكون حلًا لمشكلات السودان ومشكلات الجنوبيين، أما ما حدث بالفعل فهو صراع جنوبي/ جنوبي مرير. ومزيد من مخاطر الانقسام تنتقل إلى أماكن أخرى في السودان. والكيانات السياسية التي يمكن أن تنشأ عن هذا المنحدر ستكون خطرًا على الجميع، والمثال السوري خير شاهد، فالوجود العسكري الأجنبي فيه شهادة وفاة (محتملة) لوحدة سورية، والإرادات السياسية التي تتصارع على الأرض تفيد بأن تنازع الشرعيات دمّر الدولة والمجتمع معًا.
تعتمل في الخريطة العربية، ربما باستثناء منطقة الخليج وحدها، عوامل صراع أهلي
وتنازع الشرعيات ثمرة حتمية لتنازع المرجعيات، وتجارب التعافي الكبرى في العصر الحديث بعد صراعات دولية أو أهلية تؤكد هذه الحقيقة، فالأوروبيون مثلًا لم يخرجوا من مستنقع الدم الذي غرقوا خلاله في حربين عالميتين خلال نصف قرن، إلا بتصوّر للقضايا الأساسية للاجتماع السياسي، وقد أصبحت خلاصته "مرجعية أوروبية". وفي هذه المرجعية، كان الاختيار الاقتصادي رفضًا للشيوعية التي كانت تطرق الأبواب بقوة، ورفضًا للشمولية ذات الفكر القومي المتشدّد، بعد تجارب متشابهة كانت تجربة النازي أكثرها سوداوية .. فما المرجعية العربية التي يمكن استنادًا إليها أن ينعكس المسار، على الأقل، باتجاه ترميم القائم حتى لا يزداد تفتتًا؟
فزّاعة "التطرّف الإسلامي" التي تستخدمها نظم عربية، بأقصى درجات الانتهازية، منذ هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001، ليست سوى تكئة لاستمرار النظم الاستبدادية. وعليه، قد تتمثّل نقطة البداية لوقف مسار التفتت، في التخلص من وهم أن التطرّف هو ما يهدّد المنطقة ومستقبل شعوبها، فالاستبداد هو "التطرّف الأكثر خطورة". ومن يحاولون، من مثقفي اليمين أو اليسار، بناء تحالفات مع نظم مستبدّة، باعتبار أن الأولوية هي للقضاء على التطرّف، سيكونون الضحية القادمة لماكينة الاستبداد التي لا تفرّق بين الليبرالي أو القومي أو الاشتراكي الثوري أو غيرهم، إلا باعتبار تهديده استمرار أي نظام. والديموقراطية هي إجابة السؤال الأكثر أهمية، تليها (وقد تسبقها): دولة القانون. .. قبل أن يفوت الأوان.