تنفيسة هاني شنودة
هنا القاهرة .. انقطعت السبل، وفقد الناس، كل الناس، كلّ وسيلةٍ للتعبير عن آرائهم، من دون سجن أو إيذاء … سياسيين، مثقفين، كُتّاباً، صحافيين، إعلاميين، مسؤولين سابقين (أو حاليين)، حتى قادة الجيش، (سامي عنان مثلا)، حين يختلفون يُسجنون. يتعارض "كتم الأنفاس" مع "وعي السلطة" بذاتها، فالسلطة، أي سلطة، تستدعي نقيضَها، لا سلطة بلا نقّاد، مختلفين، ناقمين، كارهين، معارضين بالحقّ والباطل، ولو كانت سلطة أعدل الناس، أو أنجح الأنظمة والدول والمؤسسات. ولذلك يعرف رجل الدولة "الحقيقي"، ولو كان مستبدّا، أنه لا يمكنه "كتم" نقّاده طوال الوقت، فيسمح، ولو بالقليل، لا تنفيسا فحسب، إنما وقاية من أخطار الكبت، غير المتوقعة، فالانفجار يأتي، ولا يعني تأجيله تصفيته أو إخفاءه قسريا، إنما تسرّبه إلى مساحاتٍ أخرى غير السياسي والسيادي، إلى اليومي .. الشارع .. المواصلات .. مؤسّسات العمل .. الجامعات .. البيوت، (فضائح كرة القدم).. إلى سلوكيات المواطنين، وانحيازاتهم، وأفكارهم، وتعليقاتهم المرعبة على "السوشال ميديا" .. مزيد من العنف، والعدمية، واللامبالاة، والاكتئاب، والموت كمدا، وغيظا، وحرقة دم وأعصاب. يحتال ممثلو النظام، يوميا، على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي في تبرير ذلك كله بإحالته إلى مشجب التطرّف الديني، (يكاد المريب يقول خذوني)، والحاصل أن الأفكار الدينية المتطرّفة موجودة، طوال الوقت، لكنها تنتقل من الهامش إلى المتن حين تتوفّر لها شروط تحققها، وهو ما يعمل نظام عبد الفتاح السيسي عليه بدأب.. ونجاح (لعله الوحيد).
خذ مثلا عاديا، لكنه لافت، انزعاج كثيرين من تكريم الموسيقار هاني شنودة في السعودية، وليس في مصر، إشارتهم إلى تاريخه، واستحقاقه، واعتبارهم تكريم السعودية إهانة! تفسيرات وتحليلات تبدو جادّة، عن القوة الناعمة، وانتقال مركز الثقل إلى الرياض، ناهيك عن مشاعر تعاطفٍ حقيقيةٍ مع شنودة وتاريخه الفني، ورفضه، في لحظة ما، مجاراة الألوان الفنية التجارية أو الرديئة، ومن ثم نسيانه، الأمر الذي كان يستحقّ تكريما، وإعادة اعتبار، من مصر قبل غيرها. لا تخلو بعض الآراء من وجاهة، كما لا تخلو من مبالغة، ولو جاء تكريم هاني شنودة، المستحق، في السعودية أو غيرها في سياق سياسي آخر، لكان الاحتفاء، من دون غيره، عنوان تعليقات أغلب المتابعين.
ما يحدث محاولات (بعضها عفوي) للاعتراض الآمن، وتبكيت السلطة، وفشّ الغلّ، في موضوعات فنية (هاني شنودة وغيره) أو رياضية (غياب الجمهور عن الملاعب .. تراجع مستوى الأهلي والزمالك.. إلخ) أو ثقافية (مستوى تنظيم معرض الكتاب، نقل الآثار، طرق ترميمها،.. إلخ) بعيدا عن مناطق غضب السلطة وبطشها وتنكيلها، فرصة للصراخ المشروع، أو المسموح به إلى الآن. يعرف من أبدوا انزعاجهم، أو بعضهم، أن تكريم هاني شنودة في السعودية مجرّد "لقطة"، مزايدة، يرفض مسيحيون مصريون إقامة حفل هاني شنودة على مسرح الكاتدرائية، مقرّ إقامة بابا الإسكندرية، يوم 23 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، يرونه منافيا لوقار الكنيسة وقدسيّتها، فيما تسعى إليه بلاد الحرمين، الوهابية سابقا، وراعية الفنون حاليا.. تستضيف، وتُنظم، وتُكرم، وتُنفق الملايين.. يوم مصري، ومُكَرَّم مصري، ومشاركون مصريون، وتمويل سعودي، جزء من "التحكّم" في قوة مصر الناعمة ينتقل إلى الرياض بالفعل، حقهم، شُغلهم، لكنه ليس جديدا، كما أنه لم يبدأ الآن، أو مع السيسي، بل منذ تسعينيات القرن الماضي، مع حسني مبارك وصفوت الشريف وممدوح الليثي وقطاع الإنتاج، وإن لم يكن بهذا "الرخص"، حدث ومرّ، على مرارته، لكنه الآن يحدُث ولا يمرّ، ليس لأنه تصرّف رخيص، ولكن لأنه فرصة "ببلاش" لمواجهة النظام بشيءٍ من رخصه. والسؤال: ماذا لو كان النظام المصري استبداديا عاقلا؟ أو استبداديا ناجحا في مساحاتٍ تبرّر أخرى؟ أو استبداديا ذكيا، حرفيا، يجيد تبرير نفسه، وتصدير سياساتٍ أقلّ فقعا للمرارة أو خطابات أقلّ استدعاء للسخرية؟ هل كان ردّ الفعل على نجاحات الرياض أو غيرها، سيكون بهذا القلق والانزعاج و"الأفورة"؟ قد يبدو بائسا أننا انتقلنا من حلم "الدولة الحديثة" إلى رجاء استبدادٍ نصف عاقل، لكن هذا أيضا من مظاهر انقطاع السبل، ولنا الله.