تهنئة ظبية خميس
لم تبتهج الكاتبة الإماراتية، ظبية خميس، بعيد ميلادها الذي صادف أمس، لأن عامها الذي انقضى كان "أمرّ من الحنظل"، وانتهى "بخزيٍ وانحطاط كبير لواقع العرب"، على ما كتبت في صفحتها في "فيسبوك"، الصفحة التي تفيدُك المداومة على الإطلالة عليها كثيرا، لغير سببٍ وسبب، أولها أنها لمثقفةٍ عربيةٍ جديرةٍ بالقراءة والمتابعة. وتاليا لأن ذائقةً رفيعة وعلوّا معرفيا في التاريخ والثقافات يحضران في مختاراتٍ كثيرةٍ فيها من مصادر متعدّدة ومتنوعة. وإلى هذا كله، ظلت ظبية خميس، منذ أكثر من ثلاثة عقود، توصَف بأنها كاتبةٌ شجاعةٌ، ومثقفة صدامية، لا تهادن في الجهر بمواقفها، وخاضت معارك غير قليلةٍ في غير شأن، وتعرّضت، في غير محطةٍ في سيرتها، إلى اضطهادٍ معروف. ولهذا، ليس مفاجئا أنها، منذ لحظة الإعلان، مساء الخميس الماضي، عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي على علاقاتٍ طبيعيةٍ، انتقدته، بالتصريح الواضح والتلميح الأكثر وضوحا، وبظاهر الكلام ومخفيّه، وبالمباشر والترميز. ويمكن القول هنا إنها، حتى كتابة هذه السطور، الصوت الثقافي الوحيد من أبناء دولة الإمارات ونخبتها التي أشهرت هذا الموقف.
وإلى تهنئة الشاعرة، صاحبة "انتحار هادئ جدا"، بعيد ميلادها، والتمنّي لها بعمرٍ طويل وهناءة بال، فإن تهنئةً أخرى من الطيب أن تُزْجى إليها على شجاعتها هذه، المقدّرة بداهةً، سيما وأنها تفعل هذا وهي في بلدها، حماها الله. وشجاعتُها هذه غير مفاجئةٍ بالنظر إلى متواليةٍ مديدةٍ من احتجاجاتٍ ساخطةٍ في غير شأن بادرت إليها، ودفعت في بعضها أثمانا غير هيّنة، ومن ذلك احتجازها في مقر المخابرات والأمن الوطني في أبوظبي نحو خمسة شهور في العام 1987، من دون تهمة أو تحقيق، ومنع كتبها، على خلفية مقالٍ لها في مجلة المجلة، تسبّب أيضا بفصلها من عملها (بعد نحو عام فيه) في تلفزيون دبي، وذلك كله بدعوى "تطاولٍ على السلطات العليا" تضمّنه المقال. ومن المفارقات أن قضيتها في العام 2010 مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، أو على الأصح معركتها الشرسة معه، كانت بسبب مقالٍ أيضا، وقد انتهت، بتفاصيل كثيرة فيها وحواليها، باستقالة الروائية والقاصة والشاعرة والمترجمة الإماراتية من عملها في الجامعة الذي استمر 18 عاما. ومقاديرُ غزيرةُ من المؤانسة والإمتاع توفّرها قراءة كتابها عن سنواتها تلك وخواتيمها "منفى جامعة الدول العربية" (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2013).
لم تتطاول ظبية خميس على أحدٍ في تينك الواقعتين. وعندما تكتب، أخيرا، إن "صدمة الشراكة مع العدو الإسرائيلي وقعت كالطامّة على النفوس"، و"العزاء مدته ثلاثة أيام لدينا في الإمارات، حين يموت لنا ميت، رحم الله العروبة بواسع رحمته وغفر لها وأسكنها جنته"، و"كل المنافي جميلة ومحتملة، إلا منفى الوطن، فإنه الأقسى والأشد"، عندما تكتب هذا (وغيره كثير)، فإن الروائية صاحبة "خلخال السيدة العرجاء" لا تتطاول على سلطاتٍ عليا أو دنيا، وإنما تنسجم مع نفسها، مثقفةً ترى لنفسها موقعا خاصا في مجتمعها، وتزاول دورا لها في الفضاء الثقافي العام في بلدها وأمتها. ولنقرأ باهتمام الصفحات عن عملها رئيسة مكتب جامعة الدول العربية في الهند، في 2004، وما نهضت به، في ظروف عملٍ مُحبطة وبالغة التعاسة، ليس فقط في أنها أحيت مكتبا كان مستودع تخزين خمور (بالضبط!)، وإنما أيضا في مساهمتها في وقف مناوراتٍ هنديةٍ إسرائيلية. وإذ يضجّ كلامٌ كثير، منذ إشهار الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، عن صمت الجامعة بشأنه، فيما هو يخرق ميثاقها وقراراتها، فإن هذا الصمت يعود إلى الخراب الإداري والمؤسساتي وعطالة الفاعلية في هذه الجامعة التي يضيء كتاب ظبية خميس على بؤسها ورثاثتها ومواتها وركاكتها وأمراضها، وقد عملت المؤلفة فيها "مجرّد وديعة إماراتية مجمّدة"، وتكتب "تُخلي دولتي ذمّتها من إيجاد عمل لي في بلدي، وتضمن وجودي في مكانٍ تشلّ فيه حركتي وتعبيري عن آرائي ومشاركتي في الحراك الثقافي والسياسي في بلدي".
هي مناسباتٌ ثلاث سوّغت هذه المقالة بشأن كاتبةٍ عربيةٍ جديرة بالتقدير، تهنئتها بعيد ميلادها، ولا معرفة شخصية لصاحب هذه السطور بها (لقاء عارضٌ يتيم قبل 30 عاما)، وتهنئة موازية لها لمواقفها في غضون جائحة العلاقات الإسرائيلية الإماراتية، والتفاتة إلى واحدٍ من كتبها التي تزيد عن الأربعين (بينها ترجماتٌ لشعراء هنود)، عن أكبر كافتيريا عربية، اسمها جامعة الدول العربية، كما تقول نكتةٌ دالّة عنها.