تونس الشريدة
تتالت الأخبار، أخيرا، عن نقاشاتٍ دوليةٍ بشأن وضعية تونس المالية والسياسية، حيث تلعب إيطاليا بحكومتها اليمينية الصاعدة عنصر تواصل واتصال بين مختلف الدول، بهدف إيجاد صيغ لدعم تونس، خوفا من انسداد الأفق الاجتماعي وتدفق آلاف المهاجرين إلى حدودها ومن ثم إلى كامل أوروبا. وقد اعتبرت رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، في تصريح لها أخيرا، أن أوروبا معرّضة لخطر وصول موجة ضخمة من المهاجرين إلى شواطئها من شمال أفريقيا، إذا لم يجر تأمين الاستقرار المالي في تونس.
تأتي هذه التحرّكات الإيطالية، بعد أن اتهم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أفارقة جنوب الصحراء الوافدين على تونس، بأنهم جزء من مؤامرة خارجية لإحداث تغيرات ديمغرافية على البلاد، ما جعل هذه الخطوة العنصرية تبدو محاولة استرضاء جيران المتوسّط من القارّة الأوروبية على حساب الانتماء القارّي والحضاري والتاريخي، وصفقة سياسية عنوانها دعم دكتاتور لحماية سواحل أوروبا.
في السياق نفسه، تحدّث، أخيرا، الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، عن مؤامرة تُحاك ضد تونس، وأن بلاده لن تتخلى عنها، و"تدعم الرئيس التونسي باعتباره رمزا انتخبه الشعب ولم يوضع في المنصب بالقوة"، وأنهم يدعمون الدولة التونسية عن طريق رأسها. وذلك في إشهار للموقف الجزائري الصريح المساند لرأس الانقلاب في تونس الذي نُفّذ بقوة العسكر والبوليس لغلق البرلمان الشرعي وهيئات دستورية منتخبة، مستعملا أجهزة الدولة الصلبة لملاحقة ومحاكمة المعارضين والحقوقيين والنقابيين. تسبق هذا الموقف الجزائري أيضا مواقف دبلوماسية تونسية استثنائية من قضية الصحراء الغربية، واستقبال قيس سعيّد في أغسطس/ آب الماضي زعيم جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، الذي دُعي للمشاركة في القمة اليابانية الأفريقية للتنمية، ما تسبب في دعوة المغرب سفيرها في تونس احتجاجا على هذا الموقف المعادي لمصالحها العليا كما عبّرت عنه. وبالمثل، استدعت تونس بعد ذلك سفيرها في الرباط للتشاور.
هوس سعيّد بالسلطة وسعيه إلى تثبيت دكتاتوريته الناشئة جعله مستعدّا لتقديم كل التنازلات لبعض الدول المهمة لتونس جغرافيا وأمنيا
مواقف غريبة يقوم بها أو يعبر عنها الرئيس التونسي من ملفات وقضايا شائكة ومعقدة، ليست تونس مسؤولة عنها، والخوض فيها مُكلف سياسيا ودبلوماسيا، ولكن بأي ثمن. هوسه بالسلطة وسعيه إلى تثبيت دكتاتوريته الناشئة جعله مستعدّا لتقديم كل التنازلات لبعض الدول المهمة لتونس جغرافيا وأمنيا في مقابل إسناده والتغاضي عن جرائمه تجاه معارضيه ومؤسّسات الدولة التي يمعن في تفكيكها. أما التناقض فأن يحوّل هذا الرئيس بلده إلى لقمة سائغة على موائد الدول في وقتٍ يرفع فيه شعار السيادة الوطنية بشكل مطرد ومتكرّر في وجه أبناء شعبه، ويحاكم بعض خصومه السياسيين بسبب فنجان قهوة مع ممثلي سفارات في العلن، ما يُبرز حالة من السكيزوفرينيا والانفصام.
ويذكّر هذا بتنازل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وهو القرار الذي عارضه مصريون كثيرون، وتبعته تغيراتٌ سياسية واقتصادية كبيرة بالمنطقة. فقد صادق السيسي في 24 يونيو/ حزيران 2017 على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والتي انتقلت بمقتضاها الجزيرتان إلى حوزة المملكة، ما جعل "تيران" مضيقا دوليا يحق للاحتلال الإسرائيلي وغيره من الدول المرور به، بعدما كان مصريا خالصا.
يعبّر هذا السلوك من الصفقات السياسية البخسة الذي ينتهجه بعض الحكّام السلطويين عن حالة سيكولوجية لصوصيّة، ففي وقتٍ يقدمون فيه تنازلات كبرى تمسّ من كيانات دولهم ومقدّرات شعوبهم وسيادة أوطانهم، لا يتحصلون في مقابل ذلك سوى على الفتات، لأن هدفهم المركزي انتزاع الاعتراف وتعويض الرفض الوطني/ الداخلي بادّعاء المقبولية الخارجية.
عرّابو الانقلابات وخصوم الديمقراطية العربية لم يراهنوا ماليا واقتصاديا على نظام سعيّد
يمكن اعتبار أن الاستثمار في الديمقراطية داخل المحيط العربي لم يكن جذّابا بالقدر الكافي، وهذا ما أكّدته الأيام والتجربة في جميع الأقطار العربية التي شهدت تحولاتٍ ديمقراطية أو إرهاصات لذلك. كانت الدول الكبرى مصدر هذا الخذلان، وأساسا الراعية منظومة حقوق الإنسان الكونية والمتحدّثة باسم الديمقراطية، التي لم يتجاوز دعمها خطاباتها وبعض الاتفاقيات محدودة التأثير على مستوى الدول أو على مستوى العمل المدني، ناهيك عن دول عربية قادت حملات منظّمة لاجهاض هذه التجارب رغم اختلاف مساراتها.
ولكن إذا كانت هذه الدول باختلاف أسبابها وخلفياتها قد تكاسلت أو عطّلت عمليات التغيير في بلدان الربيع العربي، فلماذا اختارت الدعم السلبي للأنظمة الانقلابية في بعض هذه البلدان؟ من الملاحظ أن عرّابي الانقلابات وخصوم الديمقراطية العربية لم يراهنوا ماليا واقتصاديا على نظام قيس سعيّد في تونس مثلا، إما لمزيد من إغراق البلاد في أزماتها، وكي تصبح هشاشتها مصدر ابتزاز وإخضاع لمشاريع إقليمية ودولية، أهمها الالتحاق بحلف التطبيع الصهيوني، أو لمعطيات أخرى تتعلق برأس الانقلاب نفسه، الذي اختار سلوكا وسياسة شعبويةً لا يمكن المراهنة عليها في المدى البعيد، والتعامل مع نظامه الجديد بحذرٍ شديد، ما أضاف حالة من العجز الاقتصادي والاجتماعي إلى القمع السياسي وانتهاك الحقوق والحرّيات وتدمير أرصدة الدولة الوطنية التي راكمتها عبر عقود.
مؤسف أن تضحّي تونس بتحوّلها الديمقراطي الذي رغم كل تعثراته جعلها محط أنظار المنتظم الدولي وشمعة مضيئة لدى الشعوب العربية التائقة للحرية من أجل تردّيها إلى فريسة شريدة في صحراء قاحلة.