تونس الياسمين لا تستسلم للديكتاتورية
تتحمّل كل الأطراف التونسية مسؤولية تفاقم الأزمة السياسية الاجتماعية الاقتصادية المركّبة التي أدّت إلى فقدان ثقة التونسيين، وخصوصا جيل الشباب، في رؤية انتفاضةٍ أحيت الأمل بالتغيير في العالم العربي، لكن انقلاب الرئيس، قيس سعيد، على الدستور، وانفراده بالسلطة، يمثلان نكسة كبيرة لكل الحركات الشعبية في الوطن العربي.
فرحُ تونسيين كثيرين مفهوم، فهم يريدون حياة أفضل، فانتفاضة الياسمين كانت صرخةً ضد الاستبداد والتهميش والإفقار، ولم يكن هدفها تمكين أي حزبٍ أو مجموعة، لكن الجيل الشاب أفاق على أحلام لم تتحقق، فاللحظة التاريخية في إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي لا تعني له شيئا، فهو يبحث عن لحظته التاريخية في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وتداعياتها من الفقر والبطالة، وانسداد أفق التغيير.
هذا جزء مهم مما يحدث على الساحة التونسية، ولا يمكن إنكاره. وفي الوقت نفسه، هناك حمى صراع بين التيارين العلماني، بتنويعاته القومية والليبرالية واليسارية، والديني، تجتاح تونس وخارجها، تختزل المشهد من موقفٍ من إسقاط حزب النهضة (الإسلامي)، وبالتالي نرى تخندقا ليس داخل تونس فحسب، بل في العالم العربي، وهو سياقٌ غير دقيق، يحجب قضايا رئيسية، كان يجب أن تكون عماد الانتفاضات الغربية، من بناء دولة المؤسسات والحفاظ على الحريات إلى وضع أسس الاقتصاد المنتج والعدالة الاجتماعية.
تأييد انقلابٍ، لمجرّد أن الهدف هو التيار الإسلامي، يفقد النضال من أجل التغيير محتواه التقدّمي والتحرّري
أسس التغيير التي كانت تنادي بها، وما تزال، أحزابٌ وحراكاتٌ عربية، لم تكن المعيار الأهم الذي يحكم الموقف من أحداث تونس، فعدا استثناءاتٍ قليلة، وإنْ كانت مهمة، فإن الموقف من "الإخوان المسلمين" ووصولهم إلى السلطة، عن طريق صندوق الاقتراع، إضافة إلى التجاذب بين دول خليجية، هو المعيار الذي حكم مواقف مثقفين عرب عديدين. ولا يعني ذلك أن الطموح إلى بناء دولة مدنية تعدّدية، علمانية، تفصل الدين علن السياسة، غير مشروع، ولكن إسقاط الإسلام السياسي، عن طريق الانقلابات العسكرية، كما في مصر، أو انقلاب الرئيس على الدستور كما في تونس، يدمر فكرة بناء المؤسسات والدولة المدنية.
بشفافية، أؤمن بالعلمانية، ولا أتمنّى رؤية أحزاب دينية في السلطة، لكن تأييد انقلابٍ، لمجرّد أن الهدف هو التيار الإسلامي، يفقد النضال من أجل التغيير محتواه التقدّمي والتحرّري، ولا يمثل سوى انتقام لا يليق بأي مشروع نهضوي، نتبجّح به أو ننادي به، فالانقلاب في مصر لم يبن دولة القانون والتحرّر، بل أدّى إلى مأسسة جرائم الإقصاء والقمع والسجون والتعذيب، لأي آخر لا يريده النظام، وأثبت عبد الفتاح السيسي أنه الأكثر تعاونا مع إسرائيل من كل سابقيه منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد. وتركيز السلطات في يد الرئيس في تونس، مهما كانت صفاته، هو تأسيس لاستبداد الفرد الذي يعتبر نفسه المنقذ الأعظم، وإن من الصعب تصديق مثل هذه الدوافع، واستبعاد الشكوك بأنه مدعومٌ من قوى داخلية أو خارجية، وكيف ننادي بالحريات واحترام الدستور والمؤسسات فيما نؤيد الانقلابات العسكرية والدستورية، بحجة ضرورة التخلص من التيار الإسلامي؟
تدهور الوضع الاقتصادي وتثبيط أحلام العمال والمضطهدين مسؤولية تتحمّلها كل الأحزاب التي شاركت في الصيغ التوافقية التي حكمت تونس
لو كان السيسي أو سعيّد (مع الفروق بين الاثنين) من الإسلاميين، هل ستكون لدينا ردة الفعل نفسها على العبث بالحريات والدساتير؟ هل سيكون رد الكثيرين منا، المتخندقين تحت شعارات العلمانية واليسار والقومية، نفسه؟ والسؤال نفسه مطروح على قوى التيار الإسلامي، لو انعكست الآية. في المحصلة، هل ندعس على مبادئنا لتبرير انتصارٍ غير مشروع ضد غريمنا الأيديولوجي، غير مكترثين بالتداعيات التدميرية على مجتمعاتنا؟
هناك مشكلة موقف مبدئي من الحريات، وحتى العدالة الاجتماعية، في قلب القوى والحراكات التي تقول إنها تدافع عن حقوق الشعوب، إن كانت في مرحلة المعارضة، وبعد الوصول إلى السلطة، من انجرار آلة الصراعات الفئوية والفرعية إلى الصراع على السلطة، بعد الوصول إلى الحكم، وإهمال مركزية التحرّر والعدالة الاجتماعية. وبالتالي أدارت ظهرها عن المطالب التي اختزلها شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، فبدت عاجزةً في الحكم وخارج الحكم عن انتاج رؤى تغيير حقيقية وبرامج تساعدها في التحرّر من أذرع الدولة العميقة الممتدّة التي لم تعترف بهزيمتها. والدولة العميقة، في الحالة التونسية، عادت إلى تثبيت أقدامها بعد فوز الباجي السبسي في انتخابات الرئاسة، في مؤشّر على امتدادات للدولة العميقة وتحالفها مع فئاتٍ لا تريد ان تخسر امتيازاتها في النظام الجديد، لكن خذلان طموحات الشعب التونسي كان في استمرار نهجا اقتصاديا عماده النيوليبرالية، خصوصا بعد الرضوخ لشروط النقد الدولي، أشهرا بعد إسقاط النظام، إذ كانت واشنطن حريصة على عدم المساس بهذا النهج، فلم تمض أيام على الانقلاب على الدستور، في 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، حتى دعت الولايات المتحدة الرئيس التونسي إلى الاستعجال بإنهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لأن تثبيت التبعية الاقتصادية أهم من الحريات والدساتير، وضمانة لهذه التبعية.
لا نقوى على فقدان الأمل في الأمل الذي بزغ من تونس، وآمالنا معقودة على منع القوى التونسية دخول بلدها إلى الديكتاتورية
تدهور الوضع الاقتصادي وتثبيط أحلام العمال والمضطهدين مسؤولية تتحمّلها كل الأحزاب التي شاركت في الصيغ التوافقية التي حكمت تونس، بما فيها حزب النهضة، لكن الجميع تجاهل الأصوات الآتية من "الحوض المنجمي" في تونس، والتي كانت طوال العقود الماضية مهد انطلاق الحراكات العمالية، بعد أن فقدت تونس موقعها دولة مصدّرة للفوسفات، ولم تتحقق أي من المطالب العمالية التي كانت إحدى المظالم الرئيسة في انتفاضة الياسمين. وقد رفع شباب "الحوض المنجمي" شعار "الهجرة أول الموت"، فيما انشغلت الأحزاب بالتصارع في ما بينها، وبدا حزب النهضة عاجزا عن تقديم رؤيةٍ مختلفة، فبعد الوصول إلى الحكم لم يتحدّ أحد من المشاركين في مؤسسات الدولة الصيغ الاقتصادية المفروضة على تونس، فيما انشغلت أحزابٌ ترفع راية العلمانية باعتبار "النهضة" العدو الأكبر، متجاهلةً معاناة العمال والفئات المهمّشة.
قد يكون هنا ضرورة للمراجعة وللمساءلة، ولم يكن دعم الشباب التونسي مرشح الرئاسة، قيس سعيد، إلا مؤشّرا على اختيارهم شخصا خارج تركيبة السلطة، لكن ذلك لا يجعل انقلابه وتقويض الديمقراطية مشروعا، وهو فعل أول ما فعل، بعد إعلانه ما سماها "تدابير استثنائية"، الإيعاز باقتحام مكتب قناة الجزيرة وإغلاقه، على الرغم من جهده في توطيد علاقته مع صحافييها، وترحيبه الدائم بالظهور على شاشتها، ما يعني أن فعلته هذه مؤشّر على نزعة انتهازية وقمعية فيه، لا تتناسب مع صورة المثقف، بل مع شخصيةٍ كانت تخطط برويّة للاستحواذ على كل السلطة.
لا نستطيع أن ننكر على التونسيين فرحتهم، فهو مؤشّر على فقدان ثقتهم بما يقدّم لهم، ولكن احتكار السلطات لا ينبئ بمرحلة إنقاذ وطني. أما فرح العلمانييين بهزيمة الإسلاميين فيدل على فهم ضحل، فليست فكرة العلمانية التي تنتصر، وإنما خسرَ مفهوما الديمقراطية والتعددية. ولكن لا نقوى على فقدان الأمل في الأمل الذي بزغ من تونس، وآمالنا الآن معقودة على منع القوى التونسية دخول بلدها إلى الديكتاتورية.