تونس وما وراء أزمة النفايات
ما زالت مدينة صفاقس، في الوسط الشرقي للبلاد التونسية، تعاني من أزمة النفايات التي اندلعت منذ أكثر من سنة. تراوح الكارثة مكانها، وقد عجزت السلطة العمومية والمجتمع المدني عن حل المشكلة المتفاقمة يوما بعد يوم. من حين إلى آخر، تسخّر البلدية والمحافظة، فضلا عن بعض الخواص، إمكانات محدودة من أجل رفع بعضها من جبال القمامة المتفاقمة، حتى تُفتح معابر للمرور أو لتجنّب موتٍ محقّق من أخطار الاختناق. يتداول التونسيون عبر شبكات التوصل الاجتماعي صوراً لمحرقة كبيرة تتلبد فيها السحب ليلا ونهارا. يخيّل إليك أن المدينة تحت قصف متواصل، لفرط السحب التي غطّت المدينة، واندلعت من محاور متعدّدة.
يحدث هذا في جل المدن، وإن بأشكال مختلفة. منذ الثورة تحديدا، تفجّر هذا المشكل، وهو ناجم عن غياب التخطيط الاستراتيجي والإخفاق في إحداث انتقال بيئي كان ضروريا، سواء في معالجة النفايات أو المحافظة على المحيط عموما.
كانت السلطة السياسية تحت حكم بن علي تفرض خياراتها، حتى الأكثر ضررا ودمارا، على التونسيين. كانت النفايات، حتى الأشد فتكا، تلقى على أطراف المدن والأحياء وفي الأودية والغابات، ولا أحد يعترض. بعد الثورة وتحرّر الفضاء العمومي من قبضة الدولة، كشفت جمعيات بيئية عديدة ناشئة حجم الضرر الذي تراكم، كما أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي توثيق مئات التجاوزات التي كانت تحدُث يوميا وبثها.
ظلت طرق جمع النفايات والتصرّف فيها، بمختلف مراحلها وحلقاتها، بدائية، تقوم على الطمر حينا والحرق أحيانا أخرى
ومع ذلك، علينا أن نعدّد الأسباب، حتى لا نختزلها في هذا التقصير الفادح الذي رافق تصرّف الدولة منذ عقود في النفايات عموما، إذ لم تواكب أنماط التصرّف في النفايات ما كان يحدُث عموما في البلدان المتقدّمة. لقد ظلت طرق جمع النفايات والتصرّف فيها، بمختلف مراحلها وحلقاتها، بدائية، تقوم على الطمر حينا والحرق أحيانا أخرى، ما شكّل ضررا فادحا للطبقة المائية والغطاء النباتي ومجاري الأودية.
لقد عرفت تقنيات التصرّف في النفايات تطوّرا هائلا خلال العقود الأخيرة، ما قلّص من المخاطر البيئية أولا، وتثمين تلك النفايات عند تحويلها إلى طاقة أو سماد أو استعمالات أخرى ثانيا. تكشف الأزمة المعقدة، التي لا يبدو أن المدينة ستتجاوزها قريبا، عن أزمة حوكمة لا تكتفي بالنفايات، بل بالبيئة والمحيط عموما.
مباشرة بعد الثورة، تفجّرت مشكلة مماثلة في مدينة جربة، وظلت أيضا، مدة فاقت سنتين تقريبا، تعاني من تكدّس النفايات فيها، حتى تحولت جوهرة السياحة التونسية إلى مكبّ نفايات كبير، عجزت كل المقترحات عن حله، إلى أن قُدّم حل وهمي تمثل في جمع النفايات وتخزينها في منطقة بعيدا عن الأعين. للأسف، توهم الناس أن المشكلة زالت بمجرّد أنه لم تعد مرئية، والحال أن الكارثة مستمرّة بصمت. لقد تحولت تلك المناطق الرطبة على مقربةٍ من شواطئ الجزيرة، التي لا يرتادها الناس إلا نادرا، إلى مكب للنفايات يلوث الطبقات المائية، ويقتل آلاف الكائنات الحية التي كانت تعيش في تلك المنطقة الرطبة.
المقاومة التي يبديها سكان الأرياف والقرى ورفض أن تتحول مواطنهم إلى مكبّات للنفايات هما ثأر من مدنٍ أهانتهم ومن منوال تنمية لم يمنحهم سوى الدخان والغبار
مرّت الأزمة تقريبا بالمراحل نفسها لأزمة النفايات في مينة صفاقس: إغلاق مكبّات إما بحكم قضائي أو بسبب رفض الأهالي لها أو انتهاء عمرها القانوني وطاقة استيعابها... البحث عن مكبّات أخرى يصطدم برفض الأهالي المجاورين لتلك المكبّات المقترحة... وأخيرا، استعمال القوة الأمنية لابتكار حلول مغشوشة توهم الجميع أن المشكل زال.
رفض الأهالي مقترحات إنشاء مكبّات في عقارب، وتوفي مواطنٍ عدّ "شهيد البيئة". وما لبث أن رفض ساكنو قرية منزل شاكر المجاورة أيضا مقترحاتٍ بديلة في ظل مقاومة أهالي مدينة عقارب. تزيد هذه المعالجات من بروز انتماءات محلية ضيقة، لا تخلو من شوفينية تنمّ عن صعوبة إحلال قيم العيش المشترك، خصوصا أن القرى تلك عانت من هيمنة المدن التي سحقتها واستفردت بجل الخدمات والمرافق. لذلك، هذه المقاومة التي يبديها سكان الأرياف والقرى ورفض أن تتحول مواطنهم إلى مكبّات للنفايات هما ثأر من مدنٍ أهانتهم ومن منوال تنمية لم يمنحهم سوى الدخان والغبار.
من شأن تحديث طرق التصرّف في النفايات وحوكمة نماذج إدارتها بشكل فعال وشفاف أن يساهم في حلول منصفة ودائمة لأزمة النفايات التي ستتراكم، وستساهم في تذكية الصراعات المحلية على حساب وحدة الجماعة الوطنية، خصوصا أن الثقافة السياسية التي تغذّيها الشعبوية، فضلا عن الهندسة السياسة والانتخابية التي اعتمدها نظام قيس سعيّد، تشيان بذلك. غير أن المسؤولين المحليين، وحتى الرئيس سعيّد، يعتقدون أن الأزمة الحالية للنفايات هي بفعل فاعل يتآمر على البلاد.. وتلك أزمة أخرى لا وصفة لها في الأفق القريب.