ثقة في غير محلها
لماذا يخونُ الآخرون ثقتنا بهم غالباً؟ لماذا نكتشف كثيراً أن الثقة التي وضعناها في إنسانٍ ما لم تكن في محلها؟ ما الذي جعلنا نشعر بخيبة الأمل، كلما اكتشفنا أن شخصاً ما قد "خان" ثقتنا به؟ مَن الملوم عندما نجد ضحايا موقف سيئ تسببت فيه خيانة الثقة؟
أفكر دائماً في كلمة "ثقة"، باعتبارها مفتاح نجاةٍ وعنوان حياة أيضاً. أفكّر فيها وأنساق وراء سحر حروفها الثلاثة. معناها الحقيقي الكامن وراء تلك الأحرف الثلاثة، قيمتها ونحن نقرّر أن نمنحها للآخر، فنبدو وكأننا منحنَاه قطعةً من جنة الروح البعيدة.
لماذا نثق بشخصٍ ما ولا نثق بآخر؟ ما الثقة فعلاً؟ هل هي الشعور بالأمان تجاه ذلك الشخص الذي منحناه ثقتنا، ونحن واثقون من أنه لن يخوننا؟ هل من علاقة غير علاقة الجذر اللغوي ما بين الثقة والوثوق؟ كلما قرّرت أن أسحب ثقتي من شخص ما في حياتي، عدتُ إلى تلك المفردة، واكتشفت كم قسوت عليها عندما حمّلتها حمولة معنوية أواجه بها الآخرين، وأنا أحمّلهم مسؤوليةً كان ينبغي عليّ، أنا وحدي، أن أتحمّلها. وكلما فشلوا في الاستمرار في حفظ تلك الحمولة رميتُهم بالتهمة الجاهزة؛ خيانة الثقة.
ثقتنا بالآخرين، إذن، مسؤوليتنا وحدنا، ولا ينبغي علينا أن نُشرك في تلك المسؤولية أحداً، فعندما نثق بشخصٍ ما، حتى وإن كان ذلك بناءً على معطياتٍ كثيرة بدت لنا من شخصيته ومن طريقة تعامله معنا ومع الآخرين، على سبيل المثال، فإن استنتاج قدرته على الحفاظ على تلك الثقة عملٌ نحن مسؤولون عنه. وعندما نكتشف أن تلك الثقة لم تكن في محلها الافتراضي وفقاً لتوقعاتنا المبدئية، فهذا يعني أننا نحن الفاشلون في اختيار ذلك المحلّ منذ البداية. وبالتالي، لا ينبغي تحميل ذلك الشخص مسؤوليةً وجد نفسه يحملها باعتبارها تقديراً إنسانياً مع كل ما تتطلّبه من جهودٍ قد لا يكون مستعدّاً لأدائها.
وضعت ثقتي مرّات كثيرة في أشخاصٍ اكتشفت لاحقاً أن معظمهم ليسوا أهلاً لها، ونتجت عن ذلك غالباً نهايات مؤلمة لعلاقات جميلة، لكنني اكتشفتُ لاحقاً أنهم غير مسؤولين عمّا كنت أسمّيه خيانة الثقة، فهم لم يطلبوا مني أن أثق بهم، أو أن يكونوا موضع ثقتي، وكانوا يتصرّفون معي على طبيعتهم الإنسانية مع ما تحمله تلك الطبيعة من تنويعاتٍ مختلفة في علاقاتها مع الآخرين وصفاتها الأخلاقية العامة، وفقاً للظروف وتغيّراتها. وهذه يعني، مرّة أخرى، أنني وحدي المسؤولة عن كل وضعٍ وجدت نفسي فيه ضحية ثقةٍ (مفرطة) وُضعت في شخصٍ غير جدير بها. لأنه، ببساطة، كان دائماً كذلك، لكنني فشلت في رؤيته كذلك. فلماذا ألومه على ما ليس له به علم منطقياً؟
هل تبدو الثقة، إذن، كلمة بلهاء، لأننا غير قادرين على اتخاذها مرجعيةً حقيقيةً لعلاقاتنا مع الآخرين؟ أم أنها مفردة محايدة ككل المفردات اللغوية الأخرى التي نُضفي عليها، نحن البشر المستخدمين لها والمتعاملين بها، ما نتوسّمه وما نتوهمه وما نتمنّاه من معانٍ؟
ككل المفردات اللغوية الأخرى تبدو هذه المفردة هي الضحية الحقيقية لفشلنا نحن البشر في معرفة الآخرين، وفي معرفة حدود علاقتنا معهم. وبالتالي، علينا أن نكفّ عن تحميل وزر أخطائنا وفشلنا للكلمات والمعاني والآخرين أيضاً، عندما يتعلّق الأمر كله بطريقتنا في التفكير والتقييم. لكن هل نحن نتعلّم من تجاربنا حقاً؟ نفعل ذلك، لكن ليس دائماً، وإلا لما توالت خيباتُنا الشخصية على صعيد ثقتنا بالآخرين، المرّة تلو الأخرى.