ثورة غزّة
لا يجب أن نستهين بفعل تأثير ما يحدُث في غزّة على التحوّلات الكبيرة التي سيشهدها العالم ما بعد هذه الحرب. المؤكّد أن عالم ما بعد هذه الحرب لن يشبه العالم الذي ينهار اليوم أمامنا بفعل السقوط الكبير والمدوّي لقيم ومبادئ كثيرة حافظت على التوازن المضطرب لعالم ما بعد نهاية الحرب الباردة. فما يحدُث اليوم في غزّة، وبعيداً عن حرب الإبادة الجماعية وعملية التطهير العرقي الممنهج والجرائم ضد الإنسانية، هو ثورة حقيقية تخلخل أسس النظام العالمي الحالي المؤسّس على توازنات القوى العالمية ومصالحها الإستراتيجية.
التظاهرات والمسيرات الكبيرة التي تخرج في أغلب مدن العالم، الأصوات التي ترتفع مندّدة بالجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد مدنّيين عزّل أبرياء وتجويعهم حتى الموت، الخطابات التي تنتشر عبر منصّات التواصل الاجتماعي لأشخاصٍ يرفضون مؤامرة الصمت، التعابير المختلفة التي يبدع أصحابُها في لفت الانتباه إلى رفضهم ما يجري في غزّة، الاحتجاج القوى لمفكّرين وسياسيين ومثقفين وفنّانين وإعلاميين شجعان لقول كلمة "لا" لهمجية العصر الحالي، ولتواطؤ (وتخاذل) حكومات العالم وهيئاته الدولية أمام عربدة حكّام إسرائيل الساديين، كل هذه علامات كبيرة على ما يمور في الأعماق من تحوّلات كبيرة أعادت الاعتبار لقيم الحرية والعدالة والتقدّم، وأجّجت عند ملايين الناس اليائسين عبر العالم الشعور المشترك بالغضب ضد الظلم، وأيقظت لديهم روح الأمل في التغيير، وفرضت تكييفاً جديداً للأفكار والأوضاع في العالم.
ما يجري في غزّة حدث تاريخي كبير بكل المقاييس، سوف يؤرّخ لمرحلة التحوّل الذي يقع اليوم في أعماق العالم بعيداً عن صور الدمار والخراب والمآسي الإنسانية التي يُحدثها العدوان الإسرائيلي يومياً في قطاع غزّة وضد سكّانها العزّل الأبرياء والفقراء إلا من كرامتهم، فالأحداث التاريخية الكبيرة تُقاس دائماً بمدى ما تُحدثه من تأثير وتغيير في الأوضاع الداخلية والعالمية، وتأثير ما يحدث في غزّة، سواء من جرائم بشعة وحرب وإبادة جماعية مستفزّة تنفذ مباشرة على الهواء، أو ما تسجّله مقاومة الشعب الفلسطيني من صمود أسطوري في مواجهة قوة احتلال غاشم تدعمه أكبر القوى العسكرية، هو ما سنراه في المستقبل القريب، رغم أن بعض ملامح هذا التأثير بدأت تتجلّى في المظاهرات العالمية المؤيدة للفلسطينيين، وفي لغة الرفض والاستنكار التي يعبّر عنها مفكرون ومثقفون وإعلاميون وفنانون ورياضيون ومؤثرون ضد بشاعة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل يومياً منذ 159 يوماً في غزّة المدمّرة ضد فلسطينيات وفلسطينيين عزّل أبرياء يرفضون التخلي عن كبريائهم أو مغادرة أرضهم أو خذلان مقاومتهم.
الثورة الغزّية الموازية التي تحدُث في العالم هي ثورة قيم ومبادئ وأفكار تنتفض وتحتج على ما يحدُث من انهيار كبير لقيم إنسانية وكونية
ما يحدُث اليوم في العالم نتيجة الحرب على غزّة وتفاعلاً مع مآسيها يشبه، إلى حد كبير، تلك الرجّة الكبيرة التي أحدثتها ثورتان كبيرتان في القرن الماضي، غيرتا ملامح العالم آنذاك وقلبتا موازينه وزعزعتا أسسه الفكرية والقيمية، هما الثورة الجزائرية وصنوتها الفيتنامية. فبعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم أحداثاً كبيرة أحدثت تحوّلات عميقة في العلاقات الدولية، وفي مقدّمة تلك الأحداث الكبيرة كانت تلكما الثورتان اللتان رفعتا عالياً قيم الحرية والعدالة والكرامة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وكسرتا احتكار الغرب هذه القيم الإنسانية، بل وزعزعتا الصورة المركزية للغرب في عالم القرن العشرين، فقد كان للثورتين تأثير عظيم وبالغ في العالم، وامتد تأثيرهما داخل الغرب نفسه الذي شهد ثورات شبابية ضد الحروب غير العادلة التي كانت تشنّها دول غربية إمبريالية، قادتها حركاتٌ طلابيةٌ في باريس وكاليفورنيا وطوكيو وبرلين وساو باولو ولندن، وعمّت تلك الثورات مختلف أنحاء العالم، معبّرة عن رفضها القيم والمعايير المختلّة في ذلك الزمان، وامتد سخطها ليطاول الأساليب التقليدية للحكم والسلطة والتدريس ووسائل الإعلام، وارتفع سقف مطالبها بنماذج مجتمعية بديلة، وانبثقت عنها حركاتٌ فكريةٌ وفنيةٌ اجتاحت العالم بأفكارها وشعاراتها وأغانيها الاحتجاجية. واتّخذت تلك الثورات، في بعض الأحيان، أشكالاً عنيفة ضد الأنظمة السلطوية والقمعية والدكتاتورية في أميركا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، التي تساقطت تحت ضرباتها مثل أوراق ذابلة.
لقد جعلت حرب الجزائر باريس مركزاً لأكبر حركة احتجاج طلابية شهدها العالم آنذاك عام 1968، وصل صداها وتأثيرها إلى جميع أنحاء العالم، وحرب فيتنام حوّلت الولايات المتحدة هدفاً للشباب اليساري الثائر في العالم ضد الحرب والظلم، وحرب غزّة، اليوم، حوّلت العالم إلى مركز للقضية الفلسطينية وساحات لإدانة جرائم هذه الحرب التي تُرتكب يومياً ضد الفلسطينيين. وما يحدُث اليوم في غزّة، بعيداً عن الجرائم الفظيعة التي يركبها الكيان الصهيوني، وستلاحقه أمام محكمة التاريخ وعدالته التي تمهل ولا تهمِل، هي بوادر ثورة حقيقة تحدث في كل العالم، تتجلّى مظاهرها في المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية التي تخرج في كل الدول تستنكر وتندد بالصمت والتواطؤ وازدواجية المعايير التي تطبع سياسات المسؤولين ومواقفهم وتصريحاتهم، وتنتقد التغطيات المنحازة من وسائل الإعلام الغربية لما يحدُث يومياً في قطاع غزّة من جرائم يندى لها جبين الإنسانية.
سقطت أوراق التوت عن سَوْءات منظمّات وجامعات عالمية، بعد أن افتضح نفاقها وانكشفت ازدواجية معاييرها
الثورة الغزّية الموازية التي تحدُث في العالم هي ثورة قيم ومبادئ وأفكار تنتفض وتحتج على ما يحدُث من انهيار كبير لقيم إنسانية وكونية، ولقوانين ومعاهدات دولية تُداس كل يوم تحت جنازير الدبّابات الإسرائيلية، وتدفن في كل لحظة تحت ركام الخراب الهائل الذي يُحدثه القصف والتدمير الإسرائيليان المدعومان عسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً من قوى دولية تدّعي الحضارة والتقدم وترفع شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ثورة غزّة هي ثورة كل المظلومين والمضطهدين والمحرومين من الحرية والعدالة والكرامة، وبفضلها سقطت أقنعةٌ كثيرةٌ كانت تُخفي الوجه البشع لحكومات ووسائل إعلام غربية تدّعي الدفاع عن الحرية والديمقراطية. ونتيجة لهذه الثورة، سقطت أوراق التوت عن سَوْءات منظمّات وجامعات عالمية، بعد أن افتضح نفاقها وانكشفت ازدواجية معاييرها. وبفضل هذه الثورة، استيقظ الضمير العالمي الإنساني تعبّر عنه شعوب العالم التي استفزّتها مؤامرات التواطؤ والصمت ضد أكبر جريمة إبادة يشهدها القرن الحالي. وما هو آتٍ عظيم، لأن هذه الثورة بالكاد بدأت.