ثورة 25 يناير في مصر لم تنتهِ
مرّت أمس الذكرى السنوية الحادية عشرة لثورة 25 يناير في مصر بشكل غير رسمي. وعلى الرغم من محاولة النظام المصري محو هذا التاريخ من ذاكرة المصريين، إلا أنه هو نفسه ما زال مسكونا بكوابيسه، مرعوبا من ذاكرته. والمعروف في علم النفس أن الذكريات الجميلة والمؤلمة لا تتلاشى أبدا، وبينما يحاول الإنسان استرجاع الأحداث الجميلة التي عاشها يعمل كل شيء لنسيان تلك المؤلمة للتخلص منها، لكنه لا يستطيع ذلك، ويظل سجينا لذاكرته السلبية التي تتحوّل مع مرور الزمن إلى عقدة ذنبٍ تلازمه طوال حياته. وهذا ما يعيشه النظام المصري المأزوم، فمن العلامات المبكّرة على أن هذا النظام الانقلابي ما زال يخاف من ذكرى ثورة يناير محاولته شراء صمت الشارع المصري، بإعلان زيادة طفيفة في الحد الأدنى للأجور، وتعهده بتحقيق العدالة لضحايا قمعه، فقبيل ذكرى ثورة يناير تم الإعلان عن زيادة عشرين دولارا في الحد الأدنى للأجور الذي يبقى متدنّيا، وبالكاد سيعادل 172 دولارا. ومع ذلك، هذه الزيادة، حتى وإن تم تطبيقها في القطاع العام، يصعب فرضها على القطاع الخاص والقطاع غير المهيكل الذي يعيش منه أغلبية المصريين. وفي السياق نفسه، دين قبل أيام ضابطا شرطة مصريان بقتل خالد سعيد بعد قرابة 12 عاما على مقتله. وللتذكير، خالد سعيد، الشاب المصري الذي قتل في مخفر للشرطة بالإسكندرية تحت التعذيب، هو بصيغة أخرى محمد بوعزيزي مصر، الشاب التونسي الذي أدّى إضرامه النار في جسده عام 2010 إلى اندلاع الثورة التونسية، فقد تحوّل هاشتاغ التضامن معه "كلنا خالد سعيد"، قبل 11 سنة، إلى محرّك للثورة الشبابية في مصر التي اشتعلت في مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تنزل إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة، وتضع حدا لحكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي دام 29 عامًا.
ولكن إذا نظرنا اليوم إلى الوراء، إلى بداية تلك الاحتجاجات غير المسبوقة في مصر والعالم العربي، هل كانت كل تلك التضحيات بلا جدوى، أم أنها حملت معها إيجابياتٍ تجلت فيما سمي "الربيع العربي"؟ الجواب يختلف حسب التموقع من الثورة نفسها، فبينما يرى أنصارها أنها فتحت آفاقا كبيرة للحرية والكرامة والديمقراطية في مصر وفي المنطقة العربية، يعتقد أعداؤها أنها كانت ستُدخل البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الذي كان سيؤدّي إلى خراب البلاد وهلاك العباد. الواقع أن الثورة اغتُصبت في سنواتها الأولى، وبالتالي يصعب الحكم على مآلاتها التي لم يُتح لها الوقت الكافي لتجسّدها، لكن ما هو موجود اليوم هو الانقلاب الذي قضى عليها، وقد مضت الآن نحو ثماني سنوات على هيمنته على كل منافذ السلطة في مصر، فهل واقع المصريين اليوم أفضل مما كان عليه قبل قيام ثورتهم المغتصبة؟ لقد أعاد الانقلاب عقارب الساعة إلى الوراء، عندما قضى على حلم المصريين باختيار من يحكمهم بطريقةٍ ديمقراطية، وأعادهم إلى العيش تحت نير الدكتاتورية منذ فرض المشير عبد الفتاح السيسي نفسه رئيسا على البلاد تدوم رئاسته رسميا، بعد أن فصّل دستورا جديدا على مقاسه، حتى عام 2024، ويمكن أن يقترح نفسه لولاية ثالثة تستمر حتى عام 2030، وربما لولايات أخرى مقبلة!
لو لم يحدُث الانقلاب في مصر بدعم وتأييد من أعداء الثورة في الداخل والخارج لكنّا اليوم أمام عالم عربي آخر
مؤكّد أن المصريين لم ينزلوا إلى الشوارع عام 2011 ليخلفوا دكتاتورا بآخر أكثر قمعا ودموية من سلفه، كما أن مطالبهم بالعيش والحرية لم تتحقّق في عهد الدكتاتورية الجديدة، فقد عادت مصر إلى سنوات الانتخابات المزوّرة ومرشّح الإجماع الوطني الوحيد الذي يفوز من الدور الأول بنسبة تقارب 99%. أما حملات القمع ضد كل الأصوات المنتقدة فقد تكثفت طوال السنوات الماضية، حتى تحولت مصر إلى أكبر "سجن مفتوح"، حسب وصف تقارير منظمات حقوقية دولية تعتبر أن وضع الحريات في مصر اليوم أصبح "أكثر خطورة" من أي وقت مضى بوجود أكثر من 60 ألف سياسي في سجون مصر اليوم، بينما برّر النظام قمعه المتزايد لكل معارضيه بمزاعم المحافظة على "الاستقرار" و"مكافحة الإرهاب"!. أما على الصعيد الاقتصادي، فالوضع ليس باللون الوردي الذي يقدّمه إعلام النظام، ويكفي أن نستشهد بمؤشرين فقط للدلالة على تفاقم الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، الأول هو ارتفاع ديون مصر التي تجاوزت 137.8 مليار دولار حتى نهاية يونيو / حزيران الماضي، وذلك بحسب بيانات البنك المركزي المصري، ما يعني أن الدين الخارجي وحده أصبح يمثل نحو 20% من الناتج المحلى الإجمالي، واعتمادات فوائده تشكل نحو 33%من إجمالي موازنة الدولة. أما ما يوصف بالإصلاحات الاقتصادية التي يباشرها النظام فما زالت ثمارها بعيدة المنال، ولن تصل بالضرورة إلى كل شرائح المجتمع المصري الذين يعيش نحو 30% منهم أي 30.6 مليون نسمة، وفق وكالة الإحصاء الحكومية، تحت خط الفقر، وهؤلاء من استهدفهم النظام عندما قرر رفع الحد الأدنى للأجور لشراء صمتهم ولو إلى حين!
عادت مصر إلى سنوات الانتخابات المزوّرة ومرشّح الإجماع الوطني الوحيد الذي يفوز من الدور الأول بنسبة تقارب 99%
عندما نزل الشعب المصري إلى الشوارع والميادين عام 2011 رفعوا شعارا واحدا هو "عيش، حرية، كرامة"، وبعد مرور نحو 11 سنة لم يتحقق أيٌّ من الأهداف الثلاثة للثورة المصرية، ولا يعني هذا أن هذه المطالب اختفت، وإنما اختفى المطالبون بها، سواء من زجّوا في السجون، أو ممن أدخلهم القمع إلى غياهب الصمت الرهيب. لقد أصبح الناس منهكين، بسبب موجة القمع التي لم تتوقف، وثانيا بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي ازدادت ضراوةً في السنوات الأخيرة.
لم يؤثّر الانقلاب على الثورة المصرية عام 2013 على مصر فقط، وإنما على شعوب أخرى في المنطقة، ولو لم يحدُث ذلك الانقلاب بدعم وتأييد من أعداء الثورة في الداخل والخارج لكنّا اليوم أمام عالم عربي آخر، لا يشبه عالم الفوضى والدمار والحروب والقمع والخوف والفساد والاستبداد الذي تعيش فيه شعوب عربية كثيرة من العراق إلى المغرب، ومن سورية إلى اليمن. وكيفما سيكون الحكم على الثورة المصرية، فهي لم تنتهِ بعد. نعم، تم قمعها، لكنها لم تمُت، لأن ما تشهده دول عربية قريبة من مصر أو تشبهها، مثل السودان والعراق ولبنان، وقبل ذلك الجزائر، مؤشرات تبعث على التفاؤل بأن الشعوب العربية ما زالت حية ولم تقل كلمتها الأخيرة بعد.