جدل الصراع وعشق الأمر الواقع
لم يبق أمام الحالة والحال الفلسطيني، في زمن التحالفات "الاستراتيجية" العلنية؛ المعلنة اليوم وفي الغد، مع كيان الاحتلال الصهيوني، حيث يكثر الكلام عن تطبيع ومقاربات سياسية واقتصادية وتجارية وسياحية، وغيرها من رموز العلاقات الطبيعية بين الدول، كما هو حال النظام الرسمي العربي، وهو يجتاز كل الصعاب والحواجز والمحرّمات التي كانت تمنعه من التقارب أو الاقتراب من كيان الاحتلال وحماته الغربيين، وبدعم منهم، وبدفع من جيوبهم، حتى باتت بعض الأنظمة الرسمية العربية وكيلةً علنية عنهم، وعن كيان الاغتصاب الاستيطاني، للقيام بعمليات أمنية وعسكرية بديلة، وبقواها الذاتية، كي يصار إلى أن يقتل العربي شقيقه العربي بدم بارد، ولمصلحة عدوّ خارجي، ويعترف لكيان الاستيطان العنصري بحق مزعوم له بأرض الوطن الفلسطيني، وعلى حساب شعبه العريق، الأكثر عراقةً من "دول" ومرتزقة جيوش تلك الأنظمة وقوى أمنها غير العربية.
لقد حتم النموذج الأوسلوي، بدءاً من نسخته الفلسطينية الأولى، ومن ثم الانطلاق بنسخة عربية أكثر انحطاطاً وتفاهة، في فتح آفاقٍ لتقديم إنجازاتٍ مهمة أمام حكومة نتنياهو/ غانتس، لا بدفع من جهودهم الخاصة، وهم الأكثر إرباكاً في تاريخ الحكومات الائتلافية وغيرها، كما وليس بجهود الولايات المتحدة في عصر انحطاطها الترامبي؛ ومن لفّ لفه من شخصياتٍ أكثر انحطاطاً، في ميلها إلى تأييد كيان الاغتصاب والاستيطان الصهيوني، وتقديم القدس والضفة الغربية والأغوار والبقية الباقية من فلسطين التاريخية، على طبقٍ من ذهب، جاراها فيه وقد يجاريها عدد من أنظمة تعيسة، ليُقدموا وعلى أطباق من الألماس سلسلة من اعترافاتهم بإقامة تحالفاتٍ أمنية، وهم ممن لا حق لهم في إبداء رأيهم في قضيةٍ من أنزه القضايا العادلة، في وقتٍ يندفع عرب الانحطاط للتخلي نهائياً عن عروبتهم، وإبداء رغبتهم ونزوعهم نحو الأسرلة، إيماناً منهم بتوراةٍ زائفةٍ صُنعت وجرى تركيبها، كما العجل، خصيصاً لقوم يقدّسون العنصرية والتمييز والأبارتهايد، ويقيمون من أجل "انتصاراتهم" سلسلةً طويلة من المجازر، ولا يتورّعون كأسلافهم عن ارتكاباتٍ يندى لها جبين الإنسانية المتحضرة، وبعض عرب اليوم لا يختلفون، بل يوغلون في محاكاة وحشية الاستعمار الاستيطاني، ويساعدون بأموال شعوبهم في محاولة نزع عروبتهم استسلاماً لعدوّ يوغل، هو الآخر، في نزع روح الأنسنة عن كل ممارساته وارتكاباته الإجرامية بحق شعبٍ احتلّت أرضه وجرى تشريده منها، وتجرى مطاردته حتى في المنافي القريبة والبعيدة.
الإنجازات التي تتحقق لكيان الاستيطان العنصري لا يعود الفضل فيها لرئيس حكومته الفاسد، وهو يحاول اليوم العمل على ديمومة بقائه في السلطة، حتى ولو اقتضى الأمر فضّ الشراكة مع شريكه بيني غانتس، وذلك تفادياً لعرضه أمام المحاكم، لارتكابه واتهامه بعدد من قضايا الفساد والرّشى المتهم بها، في وقتٍ يخرج آلافٌ من الإسرائيليين بين الحين والآخر إلى الميادين والساحات، مطالبين بمحاكمة رئيس وزرائهم الفاسد، بغضّ النظر عما يسوقه من ادّعاءات إنجازٍ هنا أو إنجازٍ هناك.
إن يكن النموذج الأوسلوي الذي جرى "تحليله" فلسطينياً لا يمكن ولا يصحّ تكراره، فإن النموذج الإماراتي لا ينبغي أن يتكرّر، أو يجرى تقليده
وإن يكن النموذج الأوسلوي الذي جرى "تحليله" فلسطينياً لا يمكن ولا يصحّ تكراره، فإن النموذج الإماراتي لا ينبغي أن يتكرّر، أو يجرى تقليده، فالذي دفع إليه ليس حاجة الإمارات إلى محاكاة النموذج الأوسلوي فلسطينياً، بقدر ما هو ذاك المرض المستعصي الذي يحكم ويحتكم إلى قانون بمعايير "سلطة بلا سلطة"، وقد فاض بها "الشوق" الكولونيالي إلى ممارسة سلوك سلطوي، ولو خارج الحدود، بالأصالة كما بالوكالة.
هكذا عاد "الأمر الواقع" ليحكم بهيمنته فضاء واقعنا العربي والإسلامي، بدون الاحتكام إلى أي رؤية عقلانية استراتيجية أو فكرية، يمكنها تصحيح الخلل الكبير في سياقات الممارسة النظرية والعملية التي تحيط مجريات الصراع المفروض، والمفترض أنه لمجابهة تحدّياتٍ خارجيةٍ، كما داخلية، آثرت القفز إلى أحضان العدو والانضمام إلى صفوفه، وشن حروبه معه ومع حماته وداعميه الغربيين، وكأن الحديث عن "ناتو عربي" بات أمراً واقعاً يتجسّد أمام أعيننا بخلطة عجيبة غريبة من تحالفات دولٍ مفترضة فاشلة تعاني نقصاً وجودياً فادحاً في تكوينها وبناها الخاصة، مع دولٍ حقيقيةٍ ذات طابع كولونيالي تقود مشاريع وبرامج تستند إلى إنشاء تحالفاتٍ مستجدّة، عمادها المال والسلطة من جهة، والأمن والإرهاب والعسكرتاريا من جهة أخرى.
وإن يكن "الأمر الواقع" ما زال يشتغل على الضد من قوانين الصراع، فما كان أجدر بالسلطة الفلسطينية أن تنحو نحو محاولة إعادة التنسيق الأمني مع العدو، وفق ما أعلنت قناة كان العبرية، حين ذكرت أن السلطة ترغب في ذلك بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر من وقفه، فما عدا مما بدا، حتى "تشتاق" السلطة إلى استعادة "أمر واقع" التنسيق الأمني، وعلى أي أرضيةٍ سياسيةٍ أو أمنية، ووفق أية أسسٍ برنامجية، في وقتٍ يجري تجاهل برنامج التحرّر الوطني وإخراجه من لعبة الصراع، وإحلال "الأمر الواقع" وكأنه نهاية مطاف الصراع، كما تعتقد سلطة "أوسلو"، ومن يجاريها داخلاً وخارجاً؟
عشق "الأمر الواقع" بات من ضرورات استمرار العلاقات الزبائنية بين الحلقات العليا في السلطة الفلسطينية وهيئات الاحتلال
ويبدو أن عشق "الأمر الواقع" بات من ضرورات استمرار العلاقات الزبائنية بين الحلقات العليا في السلطة الفلسطينية وهيئات الاحتلال ومؤسساته، وتلك من خطايا التخلي عن أسس الصراع، والركون إلى حال الانقسام والتقاسم لسلطةٍ تعاني نقصاً فادحاً في مبرّرات كينونتها وأسس هذه الكينونة، في وقتٍ لا تعمل أطرافها المكوّنة على الخروج من "حال الأمر الواقع"، قدر ما عملت وتعمل على تكريس مواقع سلطوية لها، كل في "عزبته الخاصة"، على الرغم من كمّ الألفاظ والتعابير التي تحاول إظهار مواقف على غير ما تحتاجه القضية الوطنية، وفق ما كانت تحتّمه الضرورات الملحّة في سنوات الكفاح الأولى عند انطلاق الثورة، حين تجسّدت وحدة وطنية حقيقية، بات الوضع والحال الفلسطيني اليوم يفتقدها، ويعمل على الضد منها تماماً.
كان من المفترض أن يعمد اجتماع الأمناء العامين للفصائل الذي عُقد في بيروت، أخيراً، إلى ضَرورة معالجة حال "الأمر الواقع" الانقسامي، بدون بهرجةٍ زائدةٍ ولفظياتٍ غير واقعية ومهرجانات كلامية، وبنودٍ برنامجيةٍ غير قابلة للتطبيق، كما إلى ضرورة الرؤية الثاقبة بالنظر إلى أمر واقع الاحتلال الإسرائيلي برمته، وليس إلى جزئياته هنا أو هناك، وما باتت للأسف تعزّزه التحالفات العربية المستجدّة معه، من قوى رسمية عربية وازنة وغير وازنة، باتت من جانبها تتجهز لإقامة علاقاتٍ زبائنيةٍ خاصة، مع عدوٍّ لا يحتمل أي تأويل، إلا لدى من لا يرى في العدو العنصري الاستيطاني وكيانه عدوّاً، بقدر ما يرى إلى ضرورة مصادقته، وإقامة تحالفاتٍ معه، أمنية وسياسية واقتصادية وتجارية واستراتيجية، تقوم على هدف التطبيع معه أخيراً؛ وإحلال "الأمر الواقع"، أمر واقع احتلالي، لا يُراد له أن يحول أو يزول، في واقع منطقةٍ ما كان ينبغي لها أن تموت ميتة "أهل الكهف" المعاصرة، في ظل صراعٍ وجودي، ما كان ينبغي ولا يمكن له أن ينتهي، كما يريد له البعض العربي والغربي، وحتى بعض الفلسطينيين من أصحاب المصالح والمنافع والرؤى السلطوية.