جزيرة الورّاق في مصر .. دراما الأزمة الشاملة
تحمل قصة جزيرة الورّاق في مصر، بما فيها من أحداث درامية، ومواجهات بين الحكومة وسكّان الجزيرة، صورةً مختصرة لأوجه الأزمة الشاملة؛ نمط الحكم السلطوي ومضامينه، عنف مكثف ظاهر، وآخر رمزي، وسوء الإدارة وعسفها، وانحياز السياسات الاقتصادية اجتماعيا لفئاتٍ وطبقاتٍ عليا، كما تعكس أزمة التوجهات التنموية المرتكزة على قطاعات إنشائية. وإذ كانت المؤشّرات السابقة تخصّ الدولة والسلطة، وما بينهما من اتصال، هناك، على الجانب الآخر، أزمة المجتمع، بمكوّناته وطبقاته الفقيرة، والتي تتشابه ظروفه مع مجتمع "الورّاق"، ومواقف الفاعلين في المجال العام، من تشيع للسلطة ويساندها من دون عقلانية، وما تبقى من أصوات معارضة، وكلاهما تمثيل لأزمة النسق السياسي المغلق فاقد الفاعلية، المفتقد للمراجعة وإمكانات الإصلاح.
أهالي "الورّاق" جزء من مجتمع، تعاني فيه طبقاته المفقرة، وبينها فلاحون وحرفيون وصيادون، وموظفون، صعوبات معيشية، ويُرجى أن تمرّ الشهور المقبلة بأقل قدر من الضرر، بعد أن تحمّل وراهن وصبر وضاقت به السبل، أمام سلطةٍ تستخدم مصادر القوة والقهر في الحكم وإدارة الدولة وهندسة المجتمع من جديد في غياب مشاركة حقيقية من أفراده.
تطرح المواجهات التي عادت بين أهالي الورّاق وأجهزة الدولة هذه القضايا على الرأي العام، الذي يراقب خطط التهجير، بعد استحواذ الحكومة على 71% من مساحة الجزيرة (تزيد عن 1400 فدّان)، أما ما تبقى من أراضيها، فالأهالي يرفضون التنازل عنها، ومخطّطات إعادة التوطين التي أعلنتها الحكومة بديلا، ويقاومون ليس رفض التطوير كما يشاع، ولكن البدائل التي طرحت ليست عادلة، كما يعلن السكان في شهاداتهم، تأتي مقاطع الفيديو تحمل هتافات سكان الجزيرة ضد مخطّطات الإخلاء وعملياتها، وما يتزامن معها من مواجهاتٍ مع قوات الشرطة، قنابل غاز، واقتحام للمنازل واحتجاز لبعضهم، وكأنك في ساحة حرب، فيها صراع على الأرض، ورفضا لأساليب القهر، تقول الحكومة إنها ستخصص منازل على 40 فدّانا، لكن لا مؤشرات غير الوعود ولا ثقة مبنية خلال جلسات التفاوض، تسمح بتفكيك الأزمة بخسائر أقل، لأن طرفها الأقوى مستمرّ في استخدام القوة لفرض ما يريد لصالح المستثمرين، المستوطنين الجدد.
يتهم أهل جزيرة الوراق بأنهم ضد التطوير، عشوائيون، بينما يعلن أهالي الجزيرة شعارهم، "نعم للتطوير لا للتهجير"، ويطالبون بمدّ الخدمات والطرق
نمط الحكم السلطوي يطلّ من المشهد، فبجانب العنف الظاهر منذ 2017، والمتضمّن، محاولات اقتحام الجزيرة من أجل إخلائها، وحبس عدد من شبابها (حكم على 39 منهم بأحكام قاسية) في قضايا دوائر الإرهاب، تستمر أساليب الضغط على أهالي الجزيرة. قطع الوصل عبر تكرار محاولات وقف وسيلة النقل الوحيدة، المعدية، الرابطة بين الجزيرة وجانبي النهر، وعند المنفذين، أو المعبرين، قوات أمنية، والعابرون يوميا محلّ اشتباه، عرّضه للتوقيف والتفتيش، رحلة العودة إلى البيوت تتضمّن الحصار، ويلفّ الخوف المارّين، عملية ممنهجة تشمل المراقبة، وأحيانا مراجعة البيانات، بعض من سمات السجون، وآليات التحكّم والضبط. وفي المشهد، عنف رمزي، بجانب العنف المادي الذي يُصاحب محاولات الاقتحام التي شهدتها الجزيرة، وتتضمّن حملات القبض والاحتجاز، وأحيانا رمي السكان بقنابل الغاز. بجانب ذلك، تتم إزالة الخدمات، هدم مركز الشباب والمستشفى الوحيد ومكتب البريد والعيادة البيطرية، كأداة ضغط أخرى، في الأصل وقبل مخطّط الإخلاء. كان السكان يشتكون من تردّي أحوال الخدمات، أصبح وضعهم اليوم أصعب، ثم ترى إعلام السلطة يتحدّث عن التطوير والإعمار، وتحسين الأحوال وتنمية الريف وحياة كريمة.
في الوقت نفسه، يتهم أهل الجزيرة بأنهم ضد التطوير، عشوائيون، بينما يعلن أهالي الجزيرة شعارهم، "نعم للتطوير لا للتهجير"، ويطالبون بمدّ الخدمات والطرق. وسابقا، لم يعارضوا بناء أحد الجسور للمنفعة العامة، لكن ما يجري ليس تطويرا يأخذ في الاعتبار السكّان، والحقيقة التي أعلنتها الحكومة هي تحويل الجزيرة ككل إلى مشروع استثماري عالمي. وبالتالي، المستهدف تغيير التركيبة السكانية وإخلاء الجزيرة وإعادة توطين أهلها في أماكن أخرى، إبعادهم في الصحراء. ولم تطرح الحكومة بدائل يراها قطاع من السكان عادلة. صحيح أن بعضهم قبل بالتسوية، غادر الجزيرة، تحت ضغوط، لكن آخرين اختاروا البقاء، ولم تستطع أجهزة الحكومة أن تصل معها إلى حلول تفاوضية، لأنها لا تعترف، ضمن سياقٍ سلطوي، بفكرة التفاوض، وتصرّ على فرض سياسة الإذعان، وتطرح تعويضاتٍ تقلّ عن تقديرات أسعار الأرض والمساكن، بينما البديل الذي أعلنته وزارة الإسكان هو إعادة التوطين في المدن الجديدة، يعني أن يخسر السكان أراضيهم ومساكنهم، وفي أغلب الأحيان، نشاطهم ومصدر رزقهم، خصوصا الحرفيين والمزارعين وأصحاب الملكية المحدودة جدا، رغم أنه كان من الممكن أن تخصّص لأهالي الجزيرة مساكن بما يضمن بقاءهم، بل ويكونون جزءا من خطة التطوير ويتشاركون ثماره، وفي ذلك تجارب دولية عدة.
وسبق أن أعلنت الحكومة المصرية تخصيص سكن بديل (4000 وحدة سكنية) على أرض الجزيرة لمن يرغب من سكانها البقاء (عدد السكان حوالي 60 ألفاً). ورغم أن عمليات الإخلاء بدأت منذ خمس سنوات، لا بوادر أو خطوات أو ترتيبات لعودة الراغبين بالسكن في الجزيرة، إذ تركوها، وتتضارب البيانات بشأن ذلك. بينما أعلن وزير الإسكان، في مؤتمر صحافي، لمحاولة استيعاب ما أثارته واقعة اقتحام الجزيرة، ورفض بعض السكان مغادرتها أو إخلاءها: "سيكون السكن البديل لمن لا يرغب في مغادرة الجزيرة، ولكننا ما زلنا في مرحلة البناء، والأمر يستغرق وقتاً".
لم يعد سؤال لمن تنحاز السلطة اجتماعيا مطروحا اليوم، خصوصا مع تكرار أزمة الفئات الشعبية نتاج سوء الإدارة وخطى السياسات أو انحيازها
ولكن من الواضح عدم ثقة بعض أهالي الجزيرة في أن يكون هذا الحل ممكنا، نظرا إلى ما يستشعره الأهالي من سياسة التعامل المستمرّة، بما فيها من مضامين العنف والضغوط التي تمارس. والظاهر في الأزمة المستمرّة أن لغة القوة هي الحاكمة في المشهد، وأن التسوية غير قابلة للنفاذ، ويقف خلف ذلك ليس إصرار السكان وتمسّكهم بأراضيهم وحسب، وإنما أيضا عقلية لا ترى في الناس طرفا في التنمية أو التطوير، ليست لديهم مسوغات للحوار والتفاوض، أو كما يروّج إعلاميون وشاغلو مواقع القرار، ليست لهم حقوق، ينتهكون ملكية الدولة، واضعو يد، يصرفون مخلفاتهم في النهر، يقلصون المساحات المزروعة، وغيرها من أوصاف قدح واستهانة واستعلاء، تتسلّح بمواقف طبقية وثقافية تؤسس للتمييز. وبالتالي، عليهم السمع والطاعة والقبول، وكأنهم رعايا لا مواطنون.
بجانب السلطوية، تتجلّى صور من الظلم والتمييز الاجتماعي، بما فيها من عسفٍ بالحقوق، فواقعة تهجير أهالي الجزيرة تحمل مضامين للتمييز الطبقي، وانحياز السلطة اجتماعيا للمترفين، طبقة عليا عابرة للمحلية، المشروع المستهدف إنشاؤه على أرض الجزيرة، مركز عالمي للأعمال والمنتجعات السياحية والخدمات الفندقية، استثمار إماراتي! يكلف 17 مليار جنيه، أما حجم التعويضات التي خصصت للأهالي فهو ستة مليارات جنيه، تقدّر الحكومة المتر بـ1400 جنيه، أي أقل من مائة دولار، بينما تقيم الدولة، وتبيع متر الأراضي في الصحراء بما يفوق هذا المبلغ بأربعة أضعاف، فما بالك بأرض زراعية في جزيرة في النيل تمثل موقعا فريدا كما تقول الحكومة. ويعلن وزير الإسكان، عاصم الجزار، وخلف كتيبة من الأجهزة الشريكة في مشروع الاستثمار الدولي، ولكل جهاز من الشراكة نصيب، وينتظر أن يدرّ مليارات سنويا. أما نصيب أصحاب الأرض فهو أن يخضعوا لكل أشكال الابتزاز والاتهامات والضغوط!
المستفيد من المشروع مستثمرون، والمطرودون من الأرض مفقرون، وليست للقصة علاقة بتجاوز العشوائية والتطوير. هكذا تظهر الواقعة موقفا ممثلا لانحيازات السلطة اجتماعيا، وطريقة إدارتها لأحد ملفات التخطيط العمراني وإعادة استخدام الأراضي، أرباح لصالح مستثمرين، ونهب اقتصادي متعدّد الأوجه للمفقرين، بينما الدعاية تنطلق مليئة بشعارات الإصلاح والتطوير والبناء والقضاء على العشوائيات. لم يعد سؤال لمن تنحاز السلطة اجتماعيا مطروحا اليوم، خصوصا مع تكرار أزمة الفئات الشعبية نتاج سوء الإدارة وخطى السياسات أو انحيازها؛ بمعنى أدق، لطبقات مترفة ورؤوس الأموال، التي تتشارك نهب الموارد وشراء الأصول أو الاستحواذ عليها، في خطوة أخيرة لمعالجة أزمة اقتصادية عميقة ضمن ملامحها ارتفاع الدين وعجز في التمويل وانخفاض في الاحتياط النقدي.
تدلّ وقائع مقاومة السكان التهجير وما خاضوه من جولات تفاوض، وحتى ما حقّقوه من مكاسب ولو كانت محدودة، على أن لدى الطبقات الشعبية والمفقرين قدرة على التنظيم ومواجهة المخاطر
وتتضمّن الواقعة أيضا شكلا من المقاومة الاجتماعية ضد خطط الإخلاء القسري، ودفاعا عن الحقّ في السكن، ورفض الضغوط المصاحبة للتهجير والإخلاء، يأتي موقف أهالي الورّاق وصمودهم في ظل حصارٍ لكل فعل اجتماعي وسياسي، مع شيوع أجواء الخوف، ويثبت هؤلاء أن بالإمكان، وحتى في ظل السلطوية، أن يقاوم الناس مظاهر العسف والظلم. وعلى جانب آخر، وأمام حراك أهالي الورّاق، لم تستطع منظمات مجتمع مدني وأحزابٌ أن تتخذ مواقف مساندة للحراك في ظل تقييد السياسة وحصار كل أشكال الفعل السياسي، وربما عبّر كثيرون عن ذلك في تذكّر لمواقف سابقة، كانت الحركات السياسية فيها تحاول تقديم مواقف تضامنية مساندة للحركة الاجتماعية.
تدلّ وقائع مقاومة السكان التهجير وما خاضوه من جولات تفاوض، وحتى ما حقّقوه من مكاسب ولو كانت محدودة، على أن لدى الطبقات الشعبية والمفقرين قدرة على التنظيم ومواجهة المخاطر، وأنهم قادرون على انتزاع الحقوق حتى أمام نظام سلطوي لا يقبل مساحاتٍ محدودة من التعبير. ولا تعدّ هذه الواقعة هامشية أو حالة طارئة، وإنما تحمل مضامين مهمة، وتعبر عن غضب مركب، وتحمل مؤشّرا على إمكانية صعود الحركة الاجتماعية من جديد، وقدرة الناس على التنظيم والعمل الجماعي، والدفاع عن حقوقها حتى في غياب السياسة وموتها، فإن الصراع الاجتماعي يفرضها، سواء في ما يخصّ الحق في السكن ورفض مخطّطات التهجير أو الحق في الأجر العادل ضمن ظروف عمل لائقة في أوساط الطبقة العاملة. وسبقت الإشارة، في مقال للكاتب عنوانه "الفلاحون في مصر .. الخطاب الغائب والسياسة الواضحة"، نشر في "العربي الجديد" إلى إمكانات أن يعلن الفلاحون عن آلامهم وآمالهم، في ظل معاناةٍ تخلق تململا، وربما تكون هذه المناطق الأكثر معاناة تثبت أن الحراك السياسي والاجتماعي قد تكون له إرهاصات اجتماعية أكبر في المناطق الفلاحية، وظهرت القابلية للاحتجاج في ما بعد، خصوصا في مظاهرات 2019 والتي شهدتها مناطق الريف، واليوم الأزمة الاقتصادية أعمق، ولها انعكاساتها على الفلاحين والطبقة العاملة. وإذا ما توفرت قدرة على التنظيم والعمل الجماعي ستعود الحركة الاجتماعية كتعبير عن فئات من الطبقات الشعبية، وعبرها ستستطيع الحركة إحداث توازن في المشهد، والتأثير في الانحيازات الاجتماعية الحالية، بما ستطرحه من مشكلات ومعاناة، وما سترفعه من مطالب اقتصادية واجتماعية.