جملكة البلاد وجعلكة العباد
- يا حكيم، قل لي، من فضلك، ما الفرق بين الرئيس والزعيم؟
تساءل مواطنٌ غشيم، فأجابه بعد أن تلفت حوله للتاكد من خلو المكان من المتطفلين، وشغل جهاز التسجيل للتشويش على آذان الحيطان، مواطن حكيم:
- الرئيس، يا ولدي، بيجي بالانتخابات وبيروح بالانتخابات.
- والزعيم؟ تابع الغشيم مستفسرا، فردّ الحكيم:
- الزعيم يأتيك بألف لبوس ولبوس، بالانتخاب، بالانقلاب، بالمؤامرة وغيرها، وبيروح لزقة فرنجية، حتى يأخذ صاحب الأمانة أمانته، أو حتى يأتي بوسيلة مشابهة زعيم آخر. واللزقة الإفرنجية طبية، توضع على الظهر ويصعب نزعها من هناك، بسبب قوة اللاصق فيها.
انطلاقا من كلام الحكيم المجهول هذا، يمكن القول، وبكل ثقة، إنه ليس في بلادنا سوى "اللزقات الإفرنجية"، أي الزعماء الذين تذهب اللزقة الإفرنجية ولا يذهبون. يأتون ولا يغادرون إلا إلى القبر. في البداية، يأتونك على شكل قطيع حزبي، أو حركي، يقوم بامتلاك الجيش والمؤسسات القمعية وكل مفاتيح البلد، ويتم حصر تداول السلطة ضمن هذا القطيع الذي يعتبر ولادا للزعامات، حيث يبدأ النطاح ضمن قيادة الحزب، فينتصر أحدهم إلى أن يحين موعد النطاح التالي. وهكذا، إلى أن ينتصر في النطاح نصرا نهائيا أحد هؤلاء، فيبدأ بالتفكير في مستقبل أولاده. وهنا تبدأ عملية "جملكة" البلاد واستبدال ديكة الحزب أو الحركة بصيصان الزعيم. وتبدأ الثورة بأكل أبنائها، إما عبر السجون أو تعيينهم سفراء في بلاد بعيدة. ويبدأ تدجين الصف الثاني من الديكة، أو قصقصة أجنحتهم، أو رقابهم إذا لزم الأمر. أما "جعلكة العباد"، فتبدأ منذ اللحظة الأولى لقدوم الزعيم، حيث يتحوّل هم الزعامة إلى تثبيت أقدامها، عبر كم أفواه كل معترض موجود، أو حتى محتمل. ولهذا قد يذهب شخص ما ضحية خفّة دمه، حيث سمح لنفسه برواية نكتة فيها إساءة للزعيم. وقد يذهب آخر ضحية أذنيه، لأنه سمع ولم يبلغ. وبالطبع، ستصبح جريمته أكبر إن لم يتمكن من السيطرة على شفتيه وابتسم، فما بالك إن كان صاحب رأي؟ هذا تتم "جعلكة" حياته، وحياة كل من قال له صباح الخير.
تبدأ المرحلة الثانية من عملية جعلكة العباد بالتمثيليات الهزلية التي يُجبر الناس على المشاركة فيها، وأولها ابتكار مؤسسات ديمقراطية، مثل البرلمان، أشبه ما تكون بمسرح الدمى، لأنه عمليا لا يملك زمام القرار في أي أمر. يتبع ذلك بالقضاء على القوى السياسية التي يمكن أن تشكّل منافسا للزعيم، فيتم تدمير ما هو غير قابل للترويض منها، وتدجين القسم الآخر عبر زجّه في تحالفاتٍ تحت مسمّى "شريك في الحكم"، ولكن الحقيقة جعله شريكا في المسؤولية عن قرارات وإجراءات ليس له يد فيها. يترافق ذلك مع تدمير وسائل التعبير عن الرأي عبر القضاء على المنابر الصحافية، والإبقاء فقط على ما يتبع له منها، أو ما يقوم هو بالسماح بتأسيسه تحت إدارة جهات "مستقلة" بهامش حركة صغير.
وتبلغ الجعلكة ذروتها مع ممارسة العباد حقهم الانتخابي، كما يصرّحون في اللقاءات العشوائية التي يجريها معهم التلفزيون، وهم يعلمون أن لا قيمة إطلاقا لصوتهم.
كان الاستفتاء بدايةً، حيث كان عليهم الاكتفاء بقول "نعم" أو "لا". والأخيرة صعبة، حتى لو كان التصويت في غرفة سرّية. وهناك كثيرون ممن "صوفتهم حمراء" كانوا يتضايقون من الانتخابات في الغرفة السرّية، كون ذلك يجعلهم محط شك، في حال عثر في الصندوق على "لا". ولذلك كانوا يخرجون من الغرفة السرّية، ويعرضون ورقتهم متسائلين: "هكذا صحيح؟". ويرى الجميع أنهم كتبوا نعم، فيتنهدون الصّعداء، وينامون مرتاحين. وحفاظا على ماء الوجه أمام باقي الأمم، تم اختراع الانتخابات التي فيها منافسون أقل ما يقال فيهم إنهم أعضاء في الحملة الانتخابية للزعيم أكثر منهم منافسين، وذلك كله يحدث ضمن ما تسمى أعراسا انتخابية، تشبه زفاف صبيةٍ اعتصبها رجل، فحكم عليه القاضي بالزواج منها "سترا لها"، كما تنص عليه مواد بعض القوانين العربية. وبهذا الشكل، يتابع اغتصابها ولكن بشكل شرعي.
سامحك الله يا كيم إيل سونغ.