جنوب أفريقيا التي غسلت عجزنا
على الرغم من أن قرار محكمة العدل الدولية بشأن دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزّة لم يرق إلى ما كان مأمولاً منه، في ما يتعلق بطلب وقف فوري لإطلاق النار، فإنّ هذا لا يمنع من القول إنّ القرار كان تاريخياً لأسبابٍ كثيرة، أبرزها أنه فتح أمام الفلسطينيين جبهة القضاء الدولي، سيكون عليهم توظيف مواردها لأجل إثبات عدالة قضيّتهم وفضح مزاعم السردية الإسرائيلية بشأنها. كما أنه كان صفعة سياسية قوية لدولةٍ لطالما اعتبرت نفسها فوق القانون الدولي، مستفيدةً من دعم الدول الغربية الكبرى لها.
يعود الفضل في ذلك لدولة جنوب أفريقيا التي امتلكت الجرأة والشجاعة لرفع هذه الدعوى ضد دولة الاحتلال باتهامها بانتهاك مقتضيات اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948). وتدرك أنها تجازف بمصالحها حين تتجرّأ على جرِّ إسرائيل للمثول أمام محكمة العدل الدولية في سابقة من نوعها، فليس من السهل مجابهة اللوبيات الصهيونية المتغلغلة داخل مواقع القرار وشبكات النفوذ والقوة في العالم، غير أن ذلك لم يمنعها من الانتصار لإرثها النضالي والرمزي في مقاومة نظام الفصل العنصري الذي خضعت له بين 1948 و1990، والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنته. يتعلق الأمر بخبرةٍ تاريخيةٍ ونضالية وثقافية راكمها شعبُ جنوب أفريقيا ونخبه الوطنية عقوداً، وهي الخبرةُ التي أغْنتها شخصيةُ زعيمها الراحل نيلسون مانديلا ونضاله المشهودُ من أجل إنهاء نظام الفصل العنصري وإقرار الحرية والعدالة والمساواة في بلاده. لم يسِر مانديلا على خطى معظم من سبقوه من قادة حركات التحرّر والاستقلال في أفريقيا، حين حوّلوا نضالهم ضد الاستعمار إلى عائد سياسي في بناء أنظمة مستبدّة وفاسدة، بل على العكس نجح في قيادة بلاده نحو التحوّل الديمقراطي قبل أن يقرّر التخلي عن السلطة والانسحاب من المشهد السياسي، على الرغم من أنّ الدستور كان يسمح له بالترشّح لولاية رئاسية ثانية.
استدعت جنوب أفريقيا رصيدها الوطني والنضالي من أجل الدفاع عن شعب مظلوم لا تربطها به غير رابطة الكفاح ضد الاحتلال والتمييز العنصري، هذا في وقت كان يفترض بالدول العربية أن تكون سبّاقة إلى ذلك، بالنظر إلى ما يجمعها بفلسطين من روابط معلومة. واللافت أن ذلك لم يقتصر فقط على الأنظمة والحكومات التي لم تنضم لدعوى جنوب أفريقيا، بل شمل أيضاً منظمّات حقوق الإنسان وشبكاتها وائتلافاتها التي ما فتئت تذكّر الجمهورَ العربي بالتزام مواثيق تأسيسها بكونية مبادئ حقوق الإنسان، وما إلى ذلك مما يُلاك في المنتديات الحقوقية الدولية والإقليمية.
أسقطت مقتلة غزّة آخر الأوراق عن النظام العربي الرسمي الذي خذل سكان غزّة في ما يتعرّضون له من تقتيل وتشريد على يد دولة الاحتلال، وكشفت حقيقته وافتقاده الإرادة لتحريك مستنقع السياسة العربية الآسن، والانتصار، وإن ضمن الحدود الدنيا، للشعب الفلسطيني، لا فرق في ذلك بين أنظمة مُطبّعة وأخرى لم تتوقف يوماً عن الادّعاء بوقوفها إلى جانب فلسطين ''ظالمة أو مظلومة'' في مزايدةٍ سياسية وإعلامية مكشوفة.
وحدها جنوب أفريقيا امتلكت هذه الإرادة وغسلت عارنا حين كلفت فريقاً من خيرة خبرائها في القانون الدولي من أجل جمع الأدلة التي تدين دولة الاحتلال وتوثيقها بحِرفيةٍ وكفاءةٍ عاليتيْن، وقدّمت مرافعة تاريخية، تتهمها بارتكاب حرب إبادة جماعية بحقّ سكّان غزّة، وحرمانهم من الدواء والغذاء والماء والوقود، وتدمير بيوتهم وتهجيرهم. وبذلك ساهمت في فضح دولنا وحكوماتنا المتخاذلة، ودولِ الغرب ونخبه ومؤسّساته؛ الغرب الذي لا يعني عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمشرّدين، بالنسبة له، أكثر من مجرّد أرقام يخصّها ببيانات أسف لا أقلّ ولا أكثر، مع تأكيده دائماً على حقّ دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها.