جنوب أفريقيا... نيكاراغوا... كولومبيا... دول الطوق العربية
ماذا لو عادَ ابن خلدون، أو أوغست كونت، أو عبد الرحمن الكواكبي، أو غيرهم من المؤرّخين وفلاسفةِ علمِ الاجتماع، وكتبوا عمّا يجري في العالمِ من تحوّلاتٍ مُزلزلةٍ هذه الأيّام؟ ماذا سيكتبون عمّا يُوصف بأنّه العالم الأوّل، وما يُسمّى العالم الثالث، بحسبِ مقاييسِ التقدّم والتخلّف والجمود؟ أو ماذا يمكن أن يقولوا عن أميركا، بَلّورة العالم الجديد اللامعة، وهي تُمارسُ كلَّ أشكالِ الهمجية على نحوٍ أوضح بكثير مما دوّنه المؤرّخون عن سلوكِ البشر في عصورٍ مظلمة؟ كيف يمكن لأحدهم أن يصف تصريحات الديمقراطي جو بايدن وإجراءاته ضدَّ طلّاب جامعاتٍ راحوا يُعبّرون سلميًا عن موقفهم الرافض الظلمَ والعدوانَ وإبادةَ مجموعاتٍ بشريةٍ على الهُويّة، فكان نصيبُهم الضرب والركل والاختناق بقنابلِ الغاز، وإطلاقِ قطعانٍ من الكائنات المسعورة، تنهشهم في حراسةِ السلطاتِ المَنوط بها تحقيق العدل وصيانة حرّياتِ وحيوات البشر؟
ماذا يمكن أن يُقال عن امرأةٍ من الشرق أبهرت الغرب بعلمها وتفوّقها المهني حتى التحقت به، وتحوّلت من "نعمت" المصرية إلى "مينوش" البريطانية الأميركية. ومع أوّلِ اختبارٍ حقيقي، تصرّفت وكأنهّا رئيس العسس في قبيلةٍ من عصرِ ما قبل اكتشافِ البشرية، العقد الاجتماعي، ناظمًا لحياةِ الأفراد والمجتمعات، وصاعدًا بها على سلّم الحضارةِ من حالةِ العصابة إلى حالة الدولة؟
وماذا يمكن أن يكتب عمّنا الجبرتي عن مصر إذ ترتدّ إلى زمنِ القبيلةِ، قاطعًة خطوات واسعة في طريقِ العودة إلى عصرِ الفتوات والعصابات والمليشيات، وهي تُعلن عن ميلادِ اتّحادٍ للقبائل، منقول حرفيّاً من تجربةِ الجنجويد في السودان الشقيق، تلك التجربة التي مزّقت خريطةَ البلادِ، سياسيّاً وجغرافيّاً واجتماعيّاً، ورسمتْ واقعًا بائساً جديداً/ قديماً بدماء الشعب.
ما الذي من الممكن أن يسجّله المؤرّخون عن عربٍ ينسلخون من عروبتهم، ويتنحّون عن قضيّتهم المركزية، ويديرون ظهورهم لدولةٍ منهم تنزف منذ 75 عامًا، ويُولون وجوههم شطرَ العدو التاريخي، يتنافسون فيما بينهم على من يكون الأقرب إليه؟ هل يواصل التاريخ تعريف دول الطوق العربية طبقًا للمصطلح الذي اخترعه جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، ويعني ذلك الحزام الذي يطوّق العدوّ ويحاصره، ويشمل الأردن ومصر وسورية ولبنان، أم أنّ اللحظة الراهنة تنطقُ بأنّ دول الطوق الشقيقة لفلسطين صارتْ تقع في أقصى الغرب، حيث كولومبيا ونيكاراغوا، وأقصى الجنوب حيث الشقيقة جنوب أفريقيا؟
سوف يضحك التاريخ يضحك كثيراً وهو يشاهد اثنتين من دول الطوق تمدّان أيديهما لنيلِ ما يتعطّف به العدو من المياه والغاز الطبيعي، مقابل أن تتغيّر المهمّة من تطويقِ العدو إلى تطويقِ الشقيق وحصاره وتجويعه، ثمّ فجأة سيبكي التاريخ حين يسمع رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي وهو يعلن بكلِّ فخرٍ إنّ مصر قبضت ثمنَ نزوحِ الفلسطينيين من أرضهم، فراراً من العدوان الوحشي، دعماً ماليّاً من بعض البلدان والمؤسّسات الدولية لاستقبال آلاف الفلسطينيين من قطاع غزّة.
سيضحكُ المؤرّخون والفلاسفة ويبكون ثم يعبّرون عن أسفهم وحزنهم لارتدادِ البشرية إلى ماضيها المُعتم، في أعنفِ عمليةِ نكوصٍ حضاريٍ يشهدها تاريخ الجنس البشري، وهنا تحديداً لا يمكن أن تتحدّث عن ديمقراطيين وغير ديمقراطيين في حكم أميركا، إذ تنتفي الفوارق بين بايدن (الديمقراطي الصهيوني) وترامب (الجمهوري الصهيوني)، إذ يرتدُّ كلاهما بالولايات المتحدة إلى عصورِ الظلامِ الدامس في تاريخِ البشرية، فيسلك الواحد منهم وكأنّه أحد الغُزاة القادمين مع كريستوفر كولومبوس إلى الأرضِ التي سُميّت فيما بعد "أميركا" من أجل الذهب والمال والمسيح، فيستدعي كلّ تراث حروب الإقصاء والإبادة.