جنون في السلطة الفلسطينية
لغةً، الجنون زوال العقل أو فسادُه. وفي اصطلاح الفقهاء، اختلالُ العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجِه إلا نادراً. وفي الطبّ، مرضٌ عقليٌّ يصيب الشخص فيعدمه الإدراك. والناظر في أداء إعلام السلطة الفلسطينية، سيّما تلفزيونها (نُشاهده اضطرارا عند اللزوم)، منذ انتهت جولة العدوان الإسرائيلية التي استجدّت أخيرا على جنين ومخيّمها، يُصادِف كثيرا من هذا كله (وغيره). ولا يقع على ما يوحي بأن من اليسير إسعافُ القائمين على هذا الإعلام (هل هو إعلامٌ حقّا؟) مما هم فيه من نقصانٍ في العقل، يدلُّ عليه ما نرى ونسمع ونقرأ مما يقدِّمون ويطرحون، أو بلغة تشخيص النطّاسيين، مما هم فيه من نقصانٍ في سيطرة العقل على أدائهم، ما يُبيح القولَ إنّ أمراضاً نفسيةً صعبةً متوطنةٌ في أجهزة الإعلام المتحدّث عنه.
ماذا دهاهم هناك؟ ما الذي بالضبط جعلهم يُضحِكون الناس عليهم؟ ما الذي أفقدهم أعصابَهم، ورفَع الضغط في أبدانهم؟ ... ينقطعون منذ أيام، على شاشة ذلك التلفزيون، للطخّ على حركة حماس والإخوان المسلمين وقناة الجزيرة، ويستضيفون شخصا يدسّ نفسَه بين الكتّاب، فيما هو منافقٌ من الصنف الرديء لرئيس السلطة الفلسطينية، ولأنظمة الاستبداد والفساد العربية، وشبّيحٌ ركيكٌ مع نظام غاز السارين في دمشق، للتفوّه على عزمي بشارة بكلام ضجّ ببلاهاتٍ وتفاهاتٍ، تجعلان الواحد منا يُشفق على حال مؤسّسةٍ فلسطينيةٍ رسميةٍ وهي تسقُط في قاعٍ من الركاكة معيب، ويُشفق أيضا على الحالة المستعصية لدى هذا الشخص الذي كان الأدْعى أن يُستضاف في مصحّةٍ عقليةٍ لعلّه يشفى، بدلا من أن يُشهِر جهلَه بما تحدّث عنه.
إنّها أزمةٌ عميقةٌ وفادحةٌ في السلطة الفلسطينية، وفي حركة فتح (مع تقديرٍ واجبٍ لعقلاء وحكماء ومناضلين نظيفين فيها)، تفسّر هذا الخبط عشواء الذي يُقيم فيه تلفزيون دولة فلسطين. أزمة انكشاف السلطة أمام الشعب، وقد صار ازدراؤها شعورا عريضا. لا يتوقّفون، في رئاسة السلطة وفي أجهزتها، عن التدليل على حالة انفصامٍ كبرى بينها وبين الشعب. وهذه موقعة جنين ومخيّمها، أخيرا، شاهدٌ جديدٌ على اتّساع المسافات، الشعورية والوجدانية، بين الناس والسلطة المفترض أن من وظائفها حمايتهم أو أقلّه الدفاع عنهم، وقد بلغ التدنّي في الثقة بالسلطة ومؤسّساتها مستوىً مريعا. وإذا كانت واقعة طرد أهالي جنين ثلاثةً من مسؤولي السلطة وحركة فتح من تشييع شهداء سقطوا في العدوان قد صدمت النافذين في رام الله وأصابتهم بالذهول، فذلك لأنهم لا يعرفون الأرض التي تطأها أقدامُهم. ومع موقفٍ، لدى صاحب هذه الكلمات، رافضٍ هذا الطرد، إلا أن القصّة ليست هنا، وإنما في أنّ القائمين على السلطة وعلى تلفزيون فلسطين لم يجدوا غير الثرثرة عن بطولات حركة فتح وكفاح منظمة التحرير في أزمنةٍ ولّت، والتشنيع على "حماس" وقناة الجزيرة والإخوان المسلمين، فيما كان الأوْلى، لو أن الجنون لم يُخالط مداركهم، أن يسألوا أنفسهم عن الذي يدفع الناس في جنين وغيرها (وبينهم فتحاويون كثيرون بالمناسبة) إلى ترذيل السلطة، ونبذ ناسِها، ورميها بالنعوت المحقّة وغير المحقّة.
من بين كثيرٍ يلزمهم في قيادات السلطة، وتابعيهم في تلفزيون فلسطين، للشفاء مما أبانوه فيهم من جنون، أن يقرأوا تقرير المؤشّر العربي 2022 الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. إنه يفيدهم، ويفيدنا، بأن الفلسطينيين هناك هم الأقلّ ثقةً من بين أقرانهم في 13 بلدا عربيا بمؤسّسة الشرطة، 21% لا يثقون بها إلى حدّ ما، و18% لا يثقون بها إطلاقا. والأمر نفسُه بشأن الثقة في المخابرات والمباحث والاستخبارات، 21% لا يثقون بها إلى حدّ ما، و25% لا يثقون بها إطلاقا، فيما 13% يمحضونها ثقةً كبيرة، وثقة 32% إلى حدّ ما. وبشأن الثقة بالحكومة، الفلسطينيون هم الأقلّ بعد العراقيين، 60% لا يثقون بها على الإطلاق، و17% عدم ثقة إلى حد ما، 8% ثقتهم بها كبيرة، و17% ثقتهم إلى حدٍّ ما. ومفزعٌ أن يكون الفلسطينيون أقلّ ثقةًً، بعد لبنان، بجهاز القضاء في وطنهم، 19% لا يثقون إطلاقا، 25% عدم ثقةٍ إلى حدّ ما (5% لا إجابة)، 9% ثقة كبيرة.
إذاً، لو قرأ محمود العالول وصبري صيْدم وعزّام الأحمد "المؤشّر العربي"، لما فاجأهم طردُهم من الجنازة في جنين. ولو قرأه ناس تلفزيون فلسطين لربما نفَعهم في الشفاء من زوال العقل وفساده، وقد شوهدت أعراضُهما، جنوناً حادّاً، على الشاشة.