جينين بلاسخارت ظالمة ومظلومة
يريد العراقيون من جينين هينيس بلاسخارت، ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة الموكلة إليها مهمة التصدّي للمشكلات التي يعانون منها، واستحكمت حلقاتها إلى درجة أن حلها أصبح صعباً ومعقداً، أن تجد لهم الحل، لكن المشكلة أن ليس في يد جينين عصا سحرية يمكنها أن تضرب بها الأرض وتصلح ما صنع سحرة المنطقة الخضراء الذين أتقنوا كل فنون الإفك ومارسوا كل الشرور من دون أن يرفّ لهم جفن على أبناء جلدتهم، حتى صح القول فيهم إنهم أبناء جلدة ليست عراقية!
مضى على تعيين جينين بلاسخارت أزيد من سنتين، وهي تختبر سياسات حكومة العراق وبرامجها وتراجعها، فلا تجد فيها ما يعين أو يمهد لإقامة "دولة منتجة ومزدهرة تعيش في وئام مع نفسها وفي سلام مع جيرانها"، بحسب توصيف مجلس الأمن مهمتها. وقد قدّمت "إحاطاتٍ" دورية للمجلس، بلغة دبلوماسية شفافة، لم تكشف فيها صراحة عما واجهته من مصاعب وعوائق فرضتها قوى إقليمية ومحلية، ذات مصلحة في إبقاء الأوضاع التي نشأت عن الاحتلال وتراكماته، لكنها لمّحت في "إحاطاتها" تلك إلى صعوبة الأحوال والمآلات معاً، ولم يسعفها مجلس الأمن بأية إجراءاتٍ عملية، وضاق العالم أمامها فلم تجد فيه غير "آيات الله"، لتستنجد بهم، وهذا ما فعلته في زيارتها إيران أخيراً، لتبحث معهم في أحجيات الوضع العراقي التي تتناسل من دون حل، وقد واجهت، إثر ذلك، سيلاً من النقد اللاذع والاتهامات الظالمة من سياسيين وناشطين اتهموها بالانحياز لحكومة طهران، فيما هي لم تجد في خطوتها تلك انحيازاً لأحد، بل هي اكتشفت حقيقة في غاية المرارة، أن الحل لبلاد الرافدين ليس في يد أبنائها، فقد اغترب الحل كثيراً وابتعد، حتى أصبح في قبضة "آيات الله". هم يقررون مصير بغداد التي وصفها أحدهم بأنها "العاصمة التاريخية" لإمبراطوريتهم، وهم يحدّدون مسار سياساتها. لماذا نلومها، إذن، على اكتشافها أن الحل يكمن في طهران وليس في أي مكان آخر؟ وإلا لماذا يمّم حكام العراق أنفسهم شطر طهران، كلما اختلفوا أو تخاصموا، أو حتى عندما يسود الوئام بينهم ويتفقون على قسمة المناصب والامتيازات والمال الحرام، وينخرط معهم أصحاب المشاريع "الوطنية" الزائفة الذين صدّعوا رؤوسنا بمعارضتهم الحال ودعواتهم الكاذبة إلى الإصلاح.
ليس في يد جينين عصا سحرية يمكنها أن تضرب بها الأرض وتصلح ما صنع سحرة المنطقة الخضراء الذين أتقنوا كل فنون الإفك
جينين بلاسخارت كانت، إذن، أكثر إدراكاً لواقع الحال، أكثر إخلاصاً لأهل العراق من سحرة المنطقة الخضراء، وأكثر انسجاماً مع نفسها، ومع ما تأمل أن تحققه في حدود قدرتها و"التفويض" الممنوح لها. هي تدرك أن في الإمكان أفضل مما كان، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة. ولذلك شدّت الرحال إلى طهران، وفي بالها أنها تفتح ثغرة، ولو صغيرة، قد تسمح بسريان هواء نقي إلى العراقيين، خصوصاً أن قراراً جديداً لمجلس الأمن في مايو/ أيار من العام المنصرم وسّع مهمة بلاسخارت، لتشمل تقديم المشورة والدعم والمساعدة بشأن مسائل عديدة، من بينها "تيسير الحوار على الصعيد الإقليمي بما في ذلك أمن الحدود"، وهو ما استندت إليه بلاسخارت في تبرير زيارتها طهران.
ولكن، بالمنطق المعقول، كان بإمكانها أن تتصرّف على نحو مختلف، لو امتلكت الجرأة على تخطي ما هو سائد، لو أفصحت للملأ أن العراقيين لا يقبلون إلا باستعادة وطنهم من غاصبيه ومغتصبيه ممن هم خارج حدوده أو داخلها، لو صرخت في وجه "المجتمع الدولي" أن كفى إذلالاً للعراقيين وإنكاراً لحقوقهم، لو عرضت خريطة طريق في بضعة أسطر أن أنصفوا العراقيين، واعملوا على رفع هيمنة إيران عنهم، وساعدوهم على استعادة وطنهم، لو قالت لآيات الله أن ارفعوا أيديكم عن العراق.
تلك الكتلة "الهلامية" التي يسمونها "المجتمع الدولي" لا تسمع صراخ العراقيين، ولا حتى صيحات بلاسخارت إن صاحت
لكن تلك الكتلة "الهلامية" التي يسمونها "المجتمع الدولي" لا تسمع صراخ العراقيين، ولا حتى صيحات بلاسخارت إن صاحت. وأيضاً، لن يصغي "آيات الله" لأقوالها إلا بقدر ما تحقق لهم بقاء هيمنتهم وضمان مصالحهم. وفي كل الأحوال، سوف تنتهي مهمة بلاسخارت يوماً ما من دون تحقيق أية نتيجة، وقد تخلفها بلاسخارت أخرى أو آخر، وسوف ينتظر العراقيون عقوداً قبل أن تنكشف الغمّة عنهم بقدرة قادر، أو أن يقرّ "المجتمع الدولي" بأنه غير قادر على تقديم العون لهم، فينفض يده منهم ويتركهم من دون أسى أو أسف.
وبمزيج من الأسى والأسف، سوف يتذكر العراقيون آنذاك جينين هينيس بلاسخارت، وسوف يدركون عندها أنها كانت ظالمة ومظلومة في آن.