حاشية بشأن الشعبويات
أن يخصّص المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مدرسته الشتوية، في دورتها الثالثة التي اكتملت أول من أمس الخميس، لموضوعة الشعبوية، فتتناول أوراق 18 باحثاً وباحثة أنماطها ونماذجها وتمثيلاتها، وأن يستضيف المركز، في العامين الأخيرين، أكاديميين ومختصّين بسطوا، في غير محاضرةٍ وندوة، حالاتٍ من الشعبوية وطرحوا ضبطاً لمفهومها وتأثيراتها في غير بلد، وأن يولي المفكر عزمي بشارة قسطاً بيّناً من شغله البحثي، أخيراً، لهاته المسألة، فيُصدر أول كتاب باللغة العربية عنها "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2019)، وتُفتتح أعمال المدرسة الشتوية بمحاضرةٍ له، عنوانها "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، وأن يوفّر المركز العربي ترجمةً لكتاب باحثيْن رفيعيْن، "مقدمة مختصرة في الشعبوية" (2020)، فذلك كله (وغيره ربما) يعني أمرين، موصولين ببعضهما. أولهما، أن ثمّة قضيةٌ شديدة الإلحاح، مستجدّةٌ بشكل ضاغط وظاهر في الحالة العربية العامة، اسمُها الشعبوية، وهي تعني، من بين كثيرٍ تعنيه، رمي المؤسسات التمثيلية في الدولة (البرلمانات خصوصاً) والكينونات السياسية (الأحزاب مثلاً) بالنقائص، والتشديد على قدسية الشعب وطهرانيته، ونعت النخب، في الحكم والمعارضة، بالفساد. ومع ذيوع هذه الظاهرة، أو أقلّه خطابها، مع ما صار له من نفوذٍ وتأثيرٍ في الثقافة العامة السائدة، فإن الحاجة صارت قُصوى لأن يعمَل الدرس الأكاديمي والحقل البحث العربي فيها، تفكيكاً وتحليلاً، وتعريفاً، أولاً وأخيراً، بها، من حيث المفهوم والاشتغال، وما لها من تأثيراتٍ سالبةٍ أو غير سالبة. والأمر الثاني أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يؤدّي ما أناطَه بنفسه، منذ إشهاره قبل أكثر من عشر سنوات، الانشغال بالأسئلة المطروحة، القائمة المستقرّة، والمتجدّدة، والطارئة، في شؤون الاجتماع والسياسة، عربياً خصوصاً، على غير صعيدٍ ومسألة، مفاهيمَ وتمثيلاتٍ حاضرة.
وإذا كان عزمي بشارة، وهو المدير العام للمركز العربي، في كتابه ثم في محاضرته، يؤكّد على تمايزاتٍ بين ألوان الشعبوية، عندما تكون حاجةً للتعبئة، وعندما تكون فرصةً للديمقراطية الليبرالية من أجل معالجة توتراتها، وعندما تكون خطراً على هذه الديمقراطية وعلى التزام المؤسسات بالديمقراطية، فإنه يساهم في شقّ مجرىً عربيٍّ للنقاش العلمي في مسألة الشعبوية. وعندما يؤشّر، في كتابه ثم في محاضرته، إلى حالتين عربيتين، عوينت وتُعاين فيهما الشعبوية (مصر وتونس)، فإنه، ضمناً، يحثّ غيرَه من أهل الأكاديميا العرب على التقصّي في ما لا يتزيّد صاحب هذه السطور بتسميته "تحدّي" الشعبوية. ويقترح بشارة مقاربته من أجل أن تحتكّ بها مقارباتٌ أخرى، إن أمكن، وبشأن حالاتٍ عربيةٍ أخرى، غير تونس ومصر.
ولمّا كانت التنظيرات والتصوّرات التحليلية في "سؤال" الشعبوية تصدُر في سياقاتٍ أجنبية، وثمّة وفرةٌ منها هناك، ولمّا كانت المساهمات في هذه وتلك (وغيرهما) يتقدّم بها منظّرون وأساتذةٌ وباحثون (وباحثات) غربيون وآسيويون ومن أميركا اللاتينية، ولمّا كانت دور النشر العربية باتت أخيراً تستطيب نشر كتبٍ مترجمةٍ في هذه الموضوعة، الجاذبة للاهتمام على ما يبدو، فصدرت في العامين الأخيرين بضعة كتب، (منها "الشعبوية والديمقراطية الليبرالية"، تاكيس. س. باباس، ترجمة عمرية سلطاني، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021)، ولمّا كانت أكثر المساهمات في أعمال المدرسة الشتوية للمركز العربي، الأسبوع الماضي، لدارسين غير عرب، فذلك كله (وغيره) يُجيز الإلحاح هنا من أجل أن تُبادر الأقسام المختصّة في الجامعات والمعاهد العربية إلى تنشيط البحث والحفر والاستطلاع الميداني والدرس الاجتماعي لتقديم منجزٍ عربي، ويتعلق بشعبوياتٍ عربيةٍ راهنة، ويفيد من المنجز الغربي، وأيضا من عزمي بشارة، ومن دارسين عرب يهتمّون بمسألة الشعبوية (عبد الله ساعف وعبد الوهاب الأفندي مثلاً).
تصادَف أنه بينما كانت المدرسة الشتوية للمركز العربي تتدارس الشعبوية وأنماطاً عربية وأجنبية منها، كانت الشعبوية تضرب أطنابها في الأردن (عذراً للتعبير التقليدي) في "السوشيال ميديا"، فقد استطابت نخبٌ وازنةٌ ومتعلمةٌ (أفادنا عزمي بشارة بأن من يقود الحراك الشعبوي، أو يستغلّه، سياسيون نخبويون) التحريض على تعديلاتٍ أجراها البرلمان على الدستور، بدعاوى متخيّلةٍ غالباً، ومفترضة، ومُغرِضة أحياناً، .. وصحيحة قليلاً.